الرقــابةالقضائيةعلىالتعديــلاتالدستورية
أ. فــــوزي إبراهيــــم دياب [1]
تعتبر الرقابة على دستورية القوانين بنوعيها ( السياسي والقضائي ) الضمان الحقيقي لعدم مخالفة أي تشريع يصدر للدستور .
وتعتبر ليبيا من بين الدول التي تبنت أسلوب الرقابة القضائية للمراقبة على دستورية القانون ، وذلك منذ صدور قانون المحكمة العليا 1953 م ، حيث عُهد باختصاص الرقابة الدستورية إلى ( المحكمة العليا ) ، واعتُبرت تأسيساً على ذلك صاحبة الاختصاص الاصيل بهذا الدور ، غير أن هذا الاختصاص تم تعطيله خلال فترة حكم النظام السابق بين ( سحب وإرجاع ) بموجب القانون رقم 6 لسنة 1982 بشأن إعادة تنظيم المحكمة العليا ، وأعيد لها مرة أخرى بموجب أحكام القانون رقم 17 لسنة 1994 ، غير أن المحكمة العليا لم تباشر النظر في الطعون الدستورية إلا بعد إصدار اللائحة الداخلية لها سنة 2004 .
وبذلك تعتبر المحكمة العليا من خلال ( الدائرة الدستورية ) هي الجهة المخولة بمراقبة دستورية القوانين في ليبيا .
وليس ببعيد عن كل ذلك ، رأينا أن نتناول أحد المواضيع المتعلقة بالرقابة الدستورية ، ولكن ليس على دستورية القوانين ، وإنّما على التعديلات الدستورية .
أولاً : أهميةالموضوع :
تشهد الساحة القانونية والسياسية في ليبيا خلال هذه الفترة مناقشة العديد من الاشكاليات الدستورية ، ويأتي في مقدمتها ” وضع دستور جديد للدولة ” ، وكل ما يتعلق بصياغة ونشأة وتعديل هذا الدستور ، ولذلك رأيّنا من الأهمية بمكان ، مناقشة قضية نراها غاية في الأهمية وهي التعديلات الدستورية، وكيفية الرقابة عليها ، لضمان ألا ينزل التعديل الدستوري بالحقوق إلى مستوى أقل من الحماية ، أو ينزل ببعض الحقوق إلى أن تكون حقوقاً قانونية بعد أن كانت حقوقاً دستورية كفلها الدستور ذاته ، وكذلك خلق توافق لهذه التعديلات مع الفلسفة العامة للدستور ، وحماية الحقوق والحريات العامة .
ثانياً : إشكاليات الموضوع :
سوف نطرح من خلال هذه الدراسة عدد من الاشكاليات تتمثل في :
1- تحديد السلطة التي تتولى تعديل الدستور .
2- هل توجد قيود خارج نصوص الدستور تُلزم سلطة تعديل الدستور باحترامها عند تعديل الدستور؟
3- وهل يمكن لجهة الرقابة الدستورية أن تراقب التعديلات الدستورية للتأكد من أن السلطة تعديل الدستور قد التزمت قيود التعديل ؟
ثالثاً : منهاج الموضوع :
سيكون المنهاج المتبع في هذه الدراسة التحليلي المقارن .
رابعاً : خطة البحث :
سوف نقسم خطة البحث الى مطلبين كالتالي :
المطلب الأول : القواعد العامة للتعديل الدستوري
الفرع الأول : السلطة المختصة بالتعديل .
الفرع الثاني : القيود الواردة على سلطة التعديل .
المطلب الثاني : الأساس القانوني للرقابة على التعديلات الدستورية
الفرع الأول : موقف الفقه الدستوري .
الفرع الثاني : موقف القضاء الدستوري .
الخاتمة
وسوف نتناول في الخاتمة مجموعة النتائج التي توصلنا إليها ، تم نعرض بعد ذلك عدد من التوصيات المقترحة .
المطلب الأول
القواعد العامة للتعديل الدستوري
في البداية يجب أن نؤكد أن الدستور حتى يكتسب الشرعية يجب أن ينبثق من الإرادة الحقيقية الصحيحة والمشروعة للشعب ، ويجب أن يكون هذا الدستور طريقاً نحو الاتفاق ، وليس طريقاً نحو الاختلاف والتناحر ، ويعتبر تعديل الدستور الضمان لحماية واستمرار هذه المشروعية السياسية الجديدة المعبرة ، ومواكبة التغييرات التي تطرأ على الواقع الاجتماعي والسياسي للدولة .
وتختلف اجراءات التعديل في الدستور المرن عنه في الجامد ، حيث في الأول تكون الإجراءات سهلة وميسرة ، في حين تتصف الثانية بالتشدد .
ولذلك سوف نستعرض في هذا المطلب القواعد العامة للتعديلات الدستورية ، وذلك من حيث دراسة السلطة المختصة بتعديل الدستور في الفرع الأول ، تم نتناول بعد ذلك القيود المفروضة على سلطة التعديل في الفرع الثاني .
الفرع الأول
السلطة المختصة بالتعديل
الدستور باعتباره ” كائن قانوني ” يستمد وجوه من الإرادة السياسية للشعب ، وهذه الإرادة هي من تمنحه المشروعية السياسية والدستورية في آن واحد .
وهذه الإرادة السياسية للشعب تستمر عند قيام ( سلطة تأسيسية أصلية ) تتولى وضع دستور جديد ، وتستمر هذه الإرادة السياسية عندما تتولى سلطة فرعية أولتها السلطة الأصلية المنشئة مهمة تعديل الدستور، طالما التزمت هذه السلطة الفرعية عند تعديل الدستور بالضوابط التي حددتها الإرادة السياسية [2] .
ولإحاطة هذا الموضوع بالدراسة الكافية بشأن تحديد السلطة المختصة بتعديل الدستور ، فإنه حرىُّ بنا التمييز بين السلطة التأسيسية الأصلية ( المُنشئة للدستور ) ، وبين السلطة التأسيسية المشتقة .
أولاً- السلطة التأسيسية الأصلية :
ويطلق عليها اسم ( المُنشئة ) للدستور ، وهي السلطة التي تضع الدستور ابتداءً ، ذلك أن القواعد الدستورية قد يتم وضعها لأول مرة في صورة دستور جديد للدولة ، وذلك في أعقاب قيام الدولة ذاتها أو في حالة تغيير نظام الحكم في دولة قائمة على إثر ثورة أو انقلاب ، أو إثر تحول في توجهات النظام السياسي السائد ، والسلطة التي تضع القواعد الدستورية في مثل هذه الحالات تسمى “السلطة التأسيسية الأصلية”، فهي أصلية لأنها لا تستند في عملها إلى نصوص دستور سابق على وجودها ، وبالتالي فهي تتمتع بسلطة تقديرية واسعة في وضع النصوص الدستورية ، مع مراعاتها لرغبات وحاجات المجتمع[3] .
2- السلطة التأسيسية المنشأة ( المشتقة ) :
هي السلطة التي تنشأ بموجب أحكام الدستور ، وتمارس عملها في ظل قواعده ، ولأن هذه السلطة الثانية سلطة منشأة فإن تشكيلها وأسلوب ممارستها لعملها هي من الأمور الداخلة في اختصاص السلطة التأسيسية الأصلية التي وضعت الدستور وحددت كيفية تعديل أحكامه ، ومن هنا جاءت تسمية سلطة تعديل الدستور بالسلطة المنشأة أو المشتقة.
وهذه السلطة ذات صلاحيات وسلطات محدودة، تمارس مهمتها في إطار ما رسمته لها السلطة التأسيسية الأصلية ، حيث ينبغي عليها وهي بصدد القيام بتعديل الدستور الحفاظ على خصائص هذا الدستور وعلى أهدافه الرئيسية ، بحيث يقتصر دورها على مجرد الحذف منه أو تضمينه الأحكام التي من شأنها تحقيق الغرض المطلوب من التعديل دون زيادة، كما لا ينبغي عليها تضمين الدستور بعض الأحكام التي تتعارض معه أو الحذف منه، بصورة تخلق تعارضاً بين أحكامه [4] .
وتأسيساً على كل ما تقدم فإن الدستور نفسه يحدد السلطة المختصة بتعديله ، ووفقاً للإجراءات التي يحددها أيضاً ، وهذه السلطة هي سلطة ( منشأة ) من قبل الدستور ، وبالتالي فإن السلطة المنشأة هي السلطة المخولة بتعديل الدستور ، غير أن الدول تختلف كثيراً في تحديد الجهة المختصة بالتعديل ، فمنهم من يمنح هذا الاختصاص إما إلى السلطة التشريعية ( البرلمان ) ، أو إلى هيئة خاصة ، ومنها من يرجع الأمر للشعب عن طريق الاستفتاء ، وكما يجوز الجمع بين طريقة وأخرى .
1 – التعديل عن طريق الاستفتاء الدستوري :
ويقصد بهذا الأسلوب أن يُعرض التعديل الدستوري على استفتاء شعبي لإقراره بغض النظر عن الجهة التي اقترحت التعديل ، أو التي قامت بإعداده[5] ، غير أن هذا الأسلوب قد انتقد ، وذلك لإضفائه صفة الجمود المطلق على الدستور[6] .
2 : التعديل عن طريق مجلس خاص :
وفي هذا الأسلوب يتم انتخاب مجلس أو هيئة تكون مهمتها تعديل الدستور فقط ، ويكون لها في هذه الحالة أيضاً حق إقرار مبدأ التعديل وإعداده [7] .
3- التعديل عن طريق السلطة التشريعية ( البرلمان ) :
وفي هـــــذا الأسلــــوب يمنح الدستور حـــق تعديل الدستور للسلطـــة التشريعية ( البرلمـــان ) ، ويشترط في هذه الحالة اتباع الاجراءات الخاصة المنصوص عليها في الدستور ، وضرورة الحصول على أغلبية معينة يحددها الدستور [8]، ويجب ان تحافظ سلطة تعديل الدستور على الأحكام الدستورية المحظور تعديلها، ولا تصل إليها يد التعديل .
ويتضح مما سبق وجود علاقة بين السلطة التأسيسية الأصلية (سلطة وضع الدستور) والسلطة التأسيسية المنشأة ( سلطة تعديل الدستور ) قوامها وجود نوع من التدرج بين هاتين السلطتين تعلو بمقتضاه الأولى على الثانية .
ومن أهم نتائجه ، عدم دستورية ما تقوم به الثانية ( السلطة التأسيسية المشتقة ) من أعمال ، من شأنهـــــا انتهاك الحــــدود التي رسمتها الأولى ( السلطـــــة التأسيسية الأصلية ) بخصوص تعديل الدستور، وسواء كانت هذه الحدود حدوداً إجرائية أو حدوداً موضوعية [9] .
فلا يجوز الخلط إذن بين سلطة وضع دستور جديد، وسلطة تعديل دستور قائم، ولو تناولت بالتعديل كثيراً من نصوص هذا الدستور، فلا تنقلب سلطة التعديل إلى سلطة وضع دستور جديد .
الفرع الثاني
القيود الواردة على سلطة تعديل الدستور
غالبية الدساتير الحديثة تتجه إلى فرض مجموعة من الضوابط والقيود ، التي تمثل حدوداً على سلطة تعديل الدستور ، وذلك حفاظاً على ( الوثيقة الدستورية ) باعتبارها أسمى القواعد القانونية في الدولة. إلا أن هذا الحفاظ ينبغي أن يقف عند حد المحافظة عليها وإعلائها دون تجميدها أو وقوفها عن الاستجابة لما يستجد من ظروف اقتصادية واجتماعية وسياسية ، ومن ثم فإن الدساتير المختلفة تخلق نوعاً من التوازن بين الحاجة إلى صيانة الدستور من العبث بوضع ضوابط دقيقة لكي يتم تعديلها، وبين الحاجة إلى إحداث مواءمة دائمة بين النصوص الدستورية والواقع المتغير فلم تذهب إلى الحظر المطلق للتعديل وإنما وضع قيود مختلفة على السلطة التي يناط بها هذا التعديل[10] .
وتتنوع هذه القيود التي تفرضها الدساتير ما بين قيود إجرائية وقيود موضوعية ، وأخرى زمنية .
أولاً- القيود الإجرائية :
وفي هذا القيد تحظر الدساتير ، أي تعديل لأحكامها خلال ظروف خطيرة واستثنائية تتعرض لها الدولة ، وتكون حائلاً دون تعبير الشعب عن إرادته الحقيقية ، وهذا القيد يُقصد منه تجنب النتائج الخطيرة المترتبة على امكانية تعديل الدستور خلال هذه الظروف .
ومن أمثلة القيود الاجرائية ما أورده الدستور الفرنسي الصادر 1964 في المادة 94 التي تحظر إجراء أية تعديلات للدستور أثناء الاعتداء على أراضي الدولة أو على جزء منها [11].
ثانياً- القيود الموضوعية:-
قد تفرض بعض الدساتير قيوداً موضوعية ، ينبغي على سلطة تعديل الدستور عدم تجاوزها وهي بصدد ممارسة مهمتها في تعديل نصوص الدستور، وتشمل هذه النصوص بعض القواعد والمبادئ الدستورية الموضوعية التي هي على درجـــــة عالية مـــن الأهمية ، كالتي تتعلق بشكل النظـــــام السياسي في الدولة وبفلسفتهــــا السياسية والاجتماعية، وكذلك ما يتعلق ببناء الدولة ووحدتها الوطنية والترابية ، وما يتعلق ببعض الحقوق والحريات الأساسية التي ينبغي عدم الحيد عنها أو تجاوزها [12].
ومن الأمثلة على ذلك : الدستور الفرنسي لسنة 1958 ، حيث ينص في الفقرة الخامسة من المادة 89 على أنه “لا يجوز أن يكون الشكل الجمهوري للحكومة موضوع تعديل” [13] .
ثالثاً : القيود الزمنية :
بالإضافة إلى الصور السابقة ، فقد يتم تحديد نطاق تعديل الدستور ، وذلك من خلال النص بعدم تعديل نصوص الدستور خلال فترة زمنية معينة ، وذلك لإتاحة الفرصة أماما النظام السياسي الجديد لكسب تأييد أعضاء المجموعة ، ولتثبت دعائمه .
ومثال ذلك دستور الكويت ، الذي نص في الفقرة الاخيرة من المادة 174 بعدم جواز اقتراح تعديل الدستور قبل مضي خمس سنوات على العمل به [14] .
وبذلك نلاحظ أن مهمة السلطة التأسيسية الأصلية تنتهي بتمام وضع الدستور وتختفي لتحل محلها السلطة التأسيسية المنشأة ( سلطة تعديل الدستور )، وليس ذلك غريباً ولا يعني تنازل الشعب صاحب السلطة التأسيسية الأصلية عن سلطته أو عن سيادته، وإنما ينظم طريقة مزاولتها. وكما أن الشعب لا يتنازل عن السلطة التشريعية عندما يكلف بها البرلمان ، فإنه لا يتنازل عن السلطة التأسيسية عندما يجعل مهمة التعديل الجزئي للدستور منوطة بهيئة معينة [15] .
ويتضح لنا مما تقدم أن السلطة التي تتولى تعديل الدستور يجب عليها أن تلتزم القيود التي وضعتها السلطة التأسيسية الأصلية في صلب الدستور، لأن نصوص الدستور جميعها آمرة تتعلق بالنظام العام .
المطلب الثاني
الأساس القانوني لرقابة التعديلات الدستورية
سوف نستعرض في هذا المطلب الأساس القانوني لرقابة التعديلات الدستورية ، حيث سوف نتطرق لرأي الفقه الدستوري في الفرع الأول ، تم نتناول في الفرع الثاني موقف القضاء الدستوري من الرقابة على التعديلات الدستورية .
الفرع الأول
موقف الفقه الدستوري
انقسمت أراء الفقهاء بين مؤيد لرقابة التعديلات الدستورية ، وبين منكر لها ، وخاصة عند خلو الدستور من النص على هذا النوع من الرقابة .
لذلك سوف تستعرض في هذه الفرع ، أراء الفقهاء بالخصوص ، وذلك حسب التقسيم التالي [16] :
1- الرأي المؤيد لرقابة التعديل الدستوري :
فالمؤيدون يرون أن مبدأ الشرعية ومفهوم الدولة القانونية يأتي مبرراً وأساساً سليماً لخضوع السلطة التأسيسية المنشأة للقيود التي فرضتها السلطة التأسيسية الأصلية لتعديل الدستور.
كما أن النصوص الدستورية المنظمة للاختصاص لا تقف سواءً – في مصر أو في فرنسا – دون إمكانية إجراء الرقابة على التعديلات الدستورية بمعرفة القضاء ، ويرون أن انعدام الرقابة على دستورية التعديلات سيؤدي إلى الخروج على إرادة السلطة التأسيسية الأصلية دون جزاء ، وأخيراً فإن انعدام هذه الرقابة من شأنه أن يؤدي نتائج شديدة الخطورة على النظام الدستوري والسياسي للدولة خاصة إذا تولت التشريع أغلبية متشددة مناهضة للقيم الكبرى التي يقوم عليها المجتمع والتي حرصت السلطة التأسيسية الأصلية على عدم المساس بها.
2- الرأي الرافض لرقابة التعديل الدستوري :
أما الرافضون: فيؤسسون رفضهم استناداً إلى أن النصوص المحددة للاختصاص الدستوري لا تؤيد مثل هذه الرقابة، لأنها لا تفترض ولابد من نصوص صريحة تقول بها.
هذا من ناحية ، ومن ناحية أخرى فإن هذا الجانب من الفقه لا يرى فارقاً بين السلطة التأسيسية الأصلية التي تتولى وضع الدستور ابتداء، والسلطة التأسيسية المشتقة عنها ، والتي تتولى تعديل الدستور فيما بعد، فيمكن للسلطة الثانية أن تبني أي تعديل دستوري دون التقيد بما أوردته السلطة الأولى. فضلاً عن إعطاء القضاء سلطة الرقابة على التعديلات الدستورية من شانه أن يجعله سلطة فوق سلطة تعديل الدستور الأمر الذي لا يجد له أي سند ، ومن ثم فإنها تغدو مستحيلة في ظل غياب التنظيم الدستوري الذي يبين الجهة المختصة بها وكيفية إجرائها والأثر المترتب عليها.
وفي هذا الجانب فإننا نتفق مع الرأي القائل بوجود رقابة التعديل الدستوري ، حتى دون النص عليها في الدستور ، ذلك أن الرقابة الدستورية هي من الاختصاص الأصيل للقضاء الدستوري .
الفرع الثاني
موقف القضاء الدستوري
سوف نـــــدرس في هذا الفرع موقف القضاء الدستوري بشأن رقابة التعديلات الدستوري ، حيث سنبين موقف القضاء الدستوري المقارن ، تم نستعرض موقف القضاء الدستوري الليبي .
أولاً : موقف القضاء الدستوري المقارن:
اختلف موقف القضاء في هذا الموضوع إلى اتجاهات ثلاث، وذلك حسب التالي [17] :
الاتجاه الأول : رقابة التعديلات من حيث الشكل :
هذا الاتجاه أقر لنفسه رقابة التعديلات الدستورية من حيث الشكل فقط . وهو ما تبنته المحكمة العليا بالولايات المتحدة الأمريكية.
حيث أنه في البداية امتنعت المحكمة العليا الاتحادية الامريكية عن ممارستها رقابتها الدستورية على سلطة التعديل ، غير أنها بعد ذلك وعندما أثيرت مسألة الرقابة على دستورية تعديل الدستور في الولايات الأمريكية بمناسبة تعـــــديل دستور ولاية ( ماساشوست ) قضت المحكمة العليا في ماساشوست برفض إخضاع التعديل المقترح للاستفتاء الشعبي ، بسبب مخالفة التعديل المقترح لحرية الصحافة وحرية الرأي .
الاتجاه الثاني: رقابة التعديلات من حيث الشكل والموضوع :
تأتي المحكمة الدستورية الإيطالية في مقدمة المحاكم الدستورية التي ارتأت لنفسها الحق في رقابة التعديلات الدستورية ، كما ذهبت في حكمها الشهير في القضية رقم 1146 الصادر بتاريخ 29/12/1988 ، حيث أعلنت أن سلطة تعديل الدستور يتعين عليها أن تتقيد بالمبادئ الدستورية العليا التي تعلو وهي بصدد مباشرة اختصاصها وأن الدستور الإيطالي يتضمن مجموعة من المبادئ العليا لا يمكن تعديلها أو إلغاؤها بمثابة قيود مطلقة على سلطة تعديل الدستور… ثم أعلنت أنها مختصة بالفصل في مدى مطابقة التعديلات الدستورية للمبادئ العليا في النظام الدستوري.
كما قضت المحكمة الدستورية الألمانية بأن سلطة تعديل الدستور هي سلطة فرعية من السلطة التأسيسية الأصلية فتتقيد بالنصوص الإجرائية التي نصي عليها الدستور ، وأنها مسئولة عن مراقبة احترام هذه النصوص ، وأكدت أنه في إمكانها التدخل لتقرير عدم صحة بعض التعديلات الدستورية .
الاتجاه الثالث: عدم الاختصاص برقابة التعديل الدستوري :
تأتي فرنسا في مقدمة الدول التي رفضت فيها جهة الرقابة الدستورية تناول التعديلات الدستورية أو إخضاعها لرقابتها بغير الإجراءات المنصوص عليها في المادة 89 منه والتي تحكم سلطة التعديل ، فقد قرر المجلس الدستوري عدم اختصاصه بنظر دستورية تعديل الدستور الذي يتم بواسطة الاستفتاء طبقاً للمادة 11 من الدستور. وقد أسس المجلس قراره على أن سلطته في الرقابة تقتصر على مشروعات القوانين التي يقرها البرلمان.
وبذلك نستطيع القول بأنه قد تباينت مواقف القضاء الدستوري للدول بين إقرار لهذا الحق من حيث الشكل والموضوع ، في حين ذهب البعض الآخر إلى إقرار هذا الحق من حيث الشكل فقط ، في حين رفضت بعض الدول حق القضاء الدستوري بممارسة الرقابة الدستورية على التعديلات الدستورية .
ثانياً : موقف القضاء الدستوري في ليبيا ( الدائرة الدستورية بالمحكمة العليا ) :
أثيرت مسألة رقابة دستورية التعديلات الدستورية أمام المحكمة الدستورية الليبية في ليبيا لأول مرة في قضية الطعن الدستوري رقم 28 لسنة 59 ق ، والتي حكمت فيها الدائرة الدستورية بالمحكمة العليا في جلستها المنعقدة بتاريخ 26/02/2013م ” بعدم دستورية التعديل الدستوري رقم 3 لسنة 2012 م للفقرة (2) من البند (6) من المادة ( 30) من الإعلان الدستوري ….” .
وفي هذا يقول القضاء الدستوري الليبي ” .. وحيث أن دفع إدارة القضايا بعد اختصاص المحكمة بنظر الطعن في غير محله ، ذلك وإن كانت الرقابة الدستورية وفقاً لنص المادة 23 من القانون رقم (6) لسنة 1982م ، بشأن اعادة تنظيم المحكمة العليا مقصورة على مراقبة مدى التزام القانون محل الطعن لأحكام الدستور ، ولا يمتد إلى رقابة النصوص الدستورية في ذاتها ، إلا أنه متى نص الدستور على طريقة معينة واجراءات محددة لتعديل النصوص الدستورية تعين على السلطة التشريعية عند إصدار التعديل التزامها ، فإن طعن في نص التعديل الدستوري بأنه مؤسس على اجراءات تخالف الاجراءات والأوضاع الواردة بالإعلان ، فان من اختصاص الدائرة الدستورية أن تتصدى لمراقبة مدى التزام تلك السلطة القيود الواردة بالدستور ، اعمالاً للمبدأ الأساسي في التقاضي الذي مقتضاه أن القضاء هو صاحب الولاية العامة في الفصل في المنازعات ، الا ما استثنى بنص خاص ، ولو قيل بغير ذلك لكان للسلطة التشريعية أن تتحلل من القيود الواردة بالدستور بشأن التعديل ، وهو إطلاق لسلطاتها ، وفتح لباب مخالفة النصــــوص الدستورية ، وهو لا يستقيم قانوناً ….. ” [18] .
وبذلك يتضح لنا أن موقف القضاء الدستوري في ليبيا ، هو تبنيه لرقابة التعديل الدستوري ، واقتصر على مراقبة الاجراءات الشكلية للتعديل الدستوري ، وذلك حتى لا يتم اطلاق يد السلطة التشريعية بهذا الشأن ، وصوناً لنصوص الدستور وحمايتها .
الخاتمــة
من خلال دراستنا لموضوع الرقابة القضائية للتعديل الدستوري ، توصلنا إلى مجموعة من النتائج حول هذه الدراسة سوف نقوم باستعراضها أولاً ، تم بعد ذلك نعرض مجموعة من التوصيات المقترحة حول هذه الدراسة .
أولاً : النتائج :
1- أن السلطة المختصة بتعديل الدستور هي ( سلطة منشأة ) أو مشتقة ، وأن هذه السلطة منعاً لها من إطلاق يدها في اختصاصها بالتعديل فُرضت عليها مجموعة من القيود ، يتم تحديدها من السلطة التأسيسية الأصلية المختصة بوضع الدستور.
2- انقسام أراء الفقهاء بشأن الاساس القانوني لرقابة التعديلات الدستورية بين مؤيد لها ، ومنكر لوجود مثل هذا النوع من الرقابة .
3- تباينت مواقف القضاء الدستوري للدول بين إقرار لهذا المبدأ ، من حيث الشكل فقط ، في حين ذهب البعض الآخر بإقرار هذا الحق من حيث الشكـــل والموضوع ، في حين رفض البعض هذا النوع من الرقابة .
4- القضاء الدستوري في ليبيا ، ولأول مرة ، اتجه إلى تبني مبدأ الرقابة على التعديلات الدستورية ، وذلك من حيث الشكل فقط .
ثانياً : التوصيات :
1- النص الصريح في الدستور على إنشاء محكمة دستورية عليا متخصصة تُسند لها مهمة الرقابة على دستورية القوانين في ليبيا .
2- النص في الدستور على رقابة المحكمة الدستورية للتعديلات الدستورية ، وأن يكون النص المقرر لذلك من النصوص غير القابلة للتعديل، بحيث يتعذر على سلطة تعديل الدستور المساس به .
3- أن يتم النص في الدستور أيضاً على حظر بعض نصوصه من التعديل ، وخاصة المتعلقة بالحقوق والحريات الأساسية مع تحديدها وحصرها ، مثل الحق في المساواة، والتقاضي وحرية الرأي والحق في الملكية وحرمة الحياة الخاصة والحق في الكرامة الإنسانية . فضلاً عن مبدأ رقابة دستورية القوانين واللوائح والتعديلات الدستورية .
قائمة المصادر والمراجع
1- د. أحمد فتحي سرور ، منهج الإصلاح الدستوري ، مطبعة مجلس الشعب ، 2006 .
2- د. حقي بربوتي ،القانون الدستوري والتنظيم الدستوري في ليبيا ، دار ومكتبة الشعب – ليبيا ، الطبعة الثانية ، 2010 .
3- د. رجب محمود طاجن، قيود تعديل الدستور ، دار النهضة العربية ، 2008 .
4- د. عبد الحفيظ على الشيمي ، نحو رقابة التعديلات الدستورية ، دار النهضة العربية ، 2006 .
5- د. عبد العزيز سالمان: رقابة التعديلات الدستورية ، المجلة الدستورية ، العدد 20 ، بحث منشور على الموقع الالكتروني للمحكمة العليا الدستورية بمصر .
6- د. عيد أحمد الغفلول: فكرة النظام العام الدستوري وأثرها في تحديد نطاق الدعوى الدستورية ، دار النهضة العربية .
7- د. محمد حسنين عبد العال ، القانون الدستوري ، دار النهضة العربية ، 1992 .
8- د. مصطفى أبو زيد فهمي: النظرية العامة للدولة ، دار المطبوعات الجامعية بالإسكندرية 1997 .
9- د. مصطفى أبوزيد فهمي ، النظم السياسية والقانون الدستوري ، دار المطبوعات الجامعية ، 2006 .
10- د. منصور ميلاد يونس ، الوجيز في القانون الدستوري والنظم السياسية ، الطبعة الثانية ، 2013 .
الهوامش
[1] – عضو هيئة تدريس بقسم القانون العام – كلية القانون / جامعة مصراتة .
[2] – يراجع د. أحمد فتحي سرور: منهج الإصلاح الدستوري ، مطبعة مجلس الشعب ، 2006 ، ص 22 وما بعدها.
[3] – د. منصور ميلاد يونس ، الوجيز في القانون الدستوري والنظم السياسية ، الطبعة الثانية ، 2013 ، ص 312.
[4] – لمزيد من التفاصيل يراجع د. عيد أحمد الغفلول ، فكرة النظام العام الدستوري وأثرها في تحديد نطاق الدعوى الدستورية – دار النهضة العربية ، ص 68 وما بعدها .
[5] – د. منصور ميلاد يونس ، الوجيز في القانون الدستوري والنظم السياسية ، مرجع سابق ، ص 350 .
[6] – د. محمد حسنين عبد العال ، القانون الدستوري ، دار النهضة العربية ، 1992 ، ص 113 .
[7] – د. حقي بربوتي ،القانون الدستوري والتنظيم الدستوري في ليبيا ، دار ومكتبة الشعب – ليبيا ، الطبعة الثانية ، 2010 ، ص 107 .
[8] – د. مصطفى أبوزيد فهمي ، النظم السياسية والقانون الدستوري ، دار المطبوعات الجامعية ، 2006 ، ص 148
[9] – د. عيد أحمد الغفلول: المرجع السابق ، ص 69.
[10] – د. عبد العزيز محمد سالمان ، رقابة التعديلات الدستورية ، مجلة الدستورية ، العدد 20 ، موقع المحكمة الدستورية العليا المصرية .
[11] – د. محمد حسنين عبد العال ، القانون الدستوري ، مرجع سابق ، ص 122 .
[12] – د. منصور ميلاد يونس ، الوجيز في القانون الدستوري والنظم السياسية ، مرجع سابق ، ص 356 .
[13] – د. حقي بربوتي ، القانون الدستوري والتنظيم الدستوري في ليبيا ، مرجع سابق ، ص 109 .
[14] – د. د. محمد حسنين عبد العال ، القانون الدستوري ، مرجع سابق ، ص 121 -122 .
[15]– يراجع: د. مصطفى أبو زيد فهمي ، النظرية العامة للدولة ، دار المطبوعات الجامعية – الإسكندرية ، 1997 ، ص 174.
[16] – لمزيد من التفاصيل د. رجب محمود طاجن، قبول تعديل الدستور ، دار النهضة العربية ، 2008 ، ص 263 وما بعدها.
[17] – – لمزيد من التفاصيل يراجع: د. عبد الحفيظ الشيمي ، نحو رقابة التعديلات الدستورية ، دار النهضــــة العربية ، 2006 ، ص 165 وما بعدها، وكـــــذلك يراجع د. أحمد فتحي ســـــرور، منهج الاصـــــــــلاح الدستوري ، مرجع سابق ، ص 87 وما بعدها ، ويراجع ايضاً د. عبد أحمد الغفلول ، فكرة النظام العام الدستوري وأثرها في تحديد نطاق الدعوى الدستورية ، مرجع سابق ، ص 154 وما بعدها.
[18] – طعن دستوري رقم 28 لسنة 59ق ، صادر عن الدائرة الدستورية بالمحكمة العليا الليبية ، بتاريخ 26/02/2013 ميلادي ، غير منشور .