القانون العاممدى إمكانية مد الرقابة القضائية على الدستور استنادا إلى فكرة القواعد فوق الدستورية

ورقة بعنوان :

مدى إمكانية مد الرقابة القضائية على الدستور

استناداً إلى فكرة القواعد فوق الدستورية

( دراسة تحليلية )

إعـــــــداد :

أ / فرج علي زيـــــــــــــــــــــــــــدان

مُتخصص في القانون الدستوري

بنغازي 13 يوليـو 2013 م

هـ : 0925498765

مُقدمة

من المبادئ القانونية المستقرة في الفقه القانوني مبدأ سيادة الدستور أو مبدأ سمو الدستور ، الذي يعني أن الدستور هو القانون الأعلى في الدولة ، وأنه يسمو على كل ما عداه من قوانين وأعمال ؛ نظراً لصدوره من أعلى سلطة في الدولة ألا وهي السلطة التأسيسية .

وهذا السُّمو يترتب عليه أن يتربع الدستور الهرم القانوني للدولة ، بحيث تكون مراتب التشريع ثلاث وهي : التشريع الدستوري ، والتشريع العادي ، والتشريع الفرعي ، وهذا التدرج يعني خضوع التشريعين العادي والفرعي للتشريع الدستوري ، ولذا اختص القضاء الدستوري بمراقبة صحة التشريع العادي بالنسبة للتشريع الدستوري ، واختص القضاء الإداري بمراقبة صحة التشريع الفرعي بالنسبة للتشريعين الدستوري والعادي ، وفي جميع الأحوال لا تمتد رقابة القضاء لتشمل التشريع الدستوري .

ولكن ظهرت في الآونة الأخيرة بعض الأصوات التي ترى إمكان إخضاع الدستور للرقابة القضائية ؛ لعدة حجج سنسوقها في هذه الورقة ، وهذه الآراء تنادي في نفس الوقت بوجود وثيقة أو قواعد فوق دستورية يُمكن على أساسها الطعن على نصوص الدستور نفسه في حال مخالفة هذه النصوص لهذه الوثيقة أو القواعد .

وقد رأيت أن هذا الأمر يستدعي القيام بمحاولة بحثية للوقوف على حقيقة هذه الآراء ، وأبعادها ، والحجج التي يستند إليها أنصار هذه الفكرة ، وكذلك تقييمها من الناحية العملية لنرى مدى صحة هذه الفكرة ، ومدى إمكانية الاستناد إليها لمد نطاق رقابة القضاء لتشمل الدستور نفسه . ولا نخفي على أحد مدى الصعوبة الكبيرة التي واجهتنا للبحث في هذا الموضوع ؛ نظراً لعدم وجود مراجع أو أبحاث علمية تناولت هذا الموضوع ، مما اضطر معه الباحث إلى تقديم هذه المحاولة من خلال تحليل آراء أنصار هذه الفكرة ، وقراءة مناهجهم وطرائقهم في تناولها .

وبناءً على ما تقدم سنقسم هذه الورقة إلى مطلبين على النحو الآتي :

الأول : ماهية القواعد فوق الدستوريــــــــــة .

والثاني : تقييم فكرة القواعد فوق الدستورية .

المطلب الأول

ماهية القواعد فوق الدستورية

لبيان ماهية القواعد أو المواد أو الأحكام فوق الدستورية ، يقتضي الأمر الحديث عن مسألتين ، الأولى ، مفهوم هذه القواعد ، والثانية ، طبيعتها ، وذلك وفقاً لما هو آت :

أولاً ـ مفهوم بالقواعد فوق الدستورية :

بالبحث في مختلف المصادر لم نجد تعريفاً لهذه القواعد عند من يقولون بهذه الفكرة ، وهذا ما يزيد من صعوبة التعريف بها ، مما اضطر معه الباحث إلى تقديم محاولة لتقديم تعريف لهذه القواعد من خلال سبر أغوار آراء القائلين بهذه الفكرة بمختلف مذاهبهم .

وتجدر الإشارة ـ قبل عرض التعريف ـ إلى ملاحظة مهمة ، وهي أن أنصار هذه الفكرة رغم اختلافهم حول محتواها أو مضمونها فهم متفقون على أن هذه القواعد تعلو وتتفوق ـ من حيث القوة والمكانة والقيمة ـ على ما عداها من قواعد قانونية سواءً وردت في التشريع الدستوري ، أم في التشريع العادي ، أم في التشريع الفرعي ، وأن هذا من شأنه إجراء تعديل على التدرج التشريعي التقليدي الثلاثي المعروف ، بحيث يغدو هذا التدرج على أربع درجات ، الأولى، هي القواعد فوق الدستورية ، والثانية ، التشريع الدستوري ، والثالثة ، التشريع العادي، والرابعة ، التشريع الفرعي أو اللائحي .

وبالعودة إلى آراء أنصار هذه الفكرة بمختلف مذاهبهم ، فإنه يمكن الحديث عن مفهوم هذه الفكرة وفق مدلولين ، وهما : المدلول الشكلي ، والمدلول المادي .

1 ـ المدلول الشكلي للقواعد فوق الدستورية :

يركِّز القائلون بهذه الفكرة ـ في تحديدهم لها من هذا الجانب ـ على الشكل الخارجي لهذه القواعد بغض النظر عن محتواها أو جوهرها ، أي أنهم يهتمون بالوثيقة فوق الدستورية ، وبتعبير آخر فإنهم يؤمنون بوجود وثيقة أسمى من الدستور ، بحيث يكون لهذه الوثيقة مكان الصدارة في البناء القانوني للدولة ، وهذا ما يترتب عليه وجود التدرج التشريعي بالمعنى السابق ، ووجود تمايز شكلي بين القواعد الواردة في الوثيقة فوق الدستورية ، والقواعد الواردة في وثيقة الدستور .

وينتهي هذا الرأي إلى القول : إن محتوى هذه الوثيقة يظل محكوماً باتجاهات كل دولة بحسب أهمية القواعد ، أو الأفكار الحاكمة ، أو المبادئ الأساسية لهذه الدولة أو تلك .

2 ـ المدلول المادي للقواعد فوق الدستورية :

من هذه الزاوية يركِّز أنصار هذه الفكرة على محتوى أو مضمون أو جوهر القواعد فوق الدستورية ، بغض النظر عن شكلها الخارجي أو الوثيقة التي تحتويها ، ووفقاً لذلك يرى البعض أن هذه القواعد ” تتمثل في مبادئ الحكم الجمهوري ، وسيادة الشعب ، والحقوق والحريات ، والشريعة الإسلامية ” ([1]) .

ويبدو أن هذا الرأي قد اعتمدته الدكتورة ( فوزية عبدالستار ) عندما قدمت أمثلة عن هذه القواعد بقولها ” إنَّ المواد فوق الدستورية هي مواد تعلو على الدستور من حيث التدرج التشريعي…مِثل مبـدأ المساواة ، ومبدأ الشعب مصدر السلطات ، ومدد رئاسة الجمهورية “([2]) .

وعليه ، فوفقاً لهذا المدلول أو المعيار ، فإن المبادئ أو القواعد فوق الدستورية هي القواعد المتعلقة بنظام الحكم ، ومبدأ سيادة الشعب ، والحقوق والحريات ، والشريعة الإسلامية .

ثانياً ـ طبيعة القواعد فوق الدستورية :

على الرغم من اتفاق أنصار هذه الفكرة على وجود قواعد أسمى من الدستور ، إلا أنهم قد اختلفوا في طبيعة هذه القواعد بحسب أبعادها ، فهناك البُعد الحُقوقي أو القانوني ، وهناك البُعد العقائدي الدِّيني ، وأخيراً البُعد السياسي .

1 ـ البُعد القانوني أو الحُقوقي ( البُعد العالمي ) :

ويركِّز أصحابه على حُقـوق الأفـراد وحُرياتهـم الأساسيـة ، ويقـولون إن هذه الحقـوق والحريات أعلى وأسمى من الدستور ؛ على اعتبار أن الدولة لم تنشأ إلا لضمان هذه الأخيرة ، باعتبارها سابقة على وجود الدولة ، وهذا منطق رجال الثورة الفرنسية .

وعليه ، تكون الإعلانات والمواثيق المتعلقة بحقوق الإنسان هي أعلى وأسمى من الدستور، وقد تزعَّم هذا الاتجاه الفقيه الفرنسي ( دوجي Duguit ) ، وأيده في ذلك آخرون في معرِض حديثهم عن القيمة القانونية عن هذه الإعلانات ، وبحسب رأي Duguit فإن البناء القانوني للدولة يتكون من ثلاث طوابق أو درجات ، وهي إعلانات الحقوق ، ثمَّ الدستور ، ثمَّ التشريع ، وبذلك فإن إعلانات الحقوق لا تلزم فقط المُشرِّع العادي ، بل تلزم ـ أيضاً ـ المُشرِّع الدستوري وما يترتب على ذلك من ضرورة أن يتوافق الدستور والتشريع العادي مع إعلانات الحقوق وإلا كانا عُرضة للبطلان .

2 ـ البُعد العقائدي ( الدِّيني ) :

يُنادي بهذا الاتجاه بعض المفكرون المسلمون ، ووفقاً لرأيهم فإن القواعد فوق الدستورية ستتمثل في القواعد الواردة في الشريعة الإسلامية بمصادرها المعتبرة الكتاب والسُّنة ، ” إذ يقتضي الاعتراف بسمو دِين الله وكمال شريعته أن نجعل من الشريعة الإسلامية الغراء المصدر لكافة أنواع التشريعات ، بما فيها التشريع الدستوري نفسه . بحيث لا ينطوي الدستور على أيَّ نصٍ مخالفٍ لأحكامِ الشريعةِ الإسلاميةِ ” ([3]) .

إنَّ هذا الاتجاه له صدىً في ليبيا ، وما زاد من قوته قول البعض إنَّ تحكيم الشريعة الإسلامية أمرٌ غيـرُ خاضعٍ للاستفتـاء ، الذي تخضع له باقي مـواد الدستـور ، ولحـل هذه المُعضلـة يـرى البعض ([4]) أن تكون القواعد الواردة في الشريعة الإسلامية قواعد فوق دستورية ، بحيث تكون مراتب التشريع في ليبيا هي : الشريعة الإسلامية ، ثمَّ التشريع الدستوري ، ثمَّ التشريع العادي ، ثمَّ التشريع الفرعي . وسنتولى الرد على هذا الرأي لاحقاً عند حديثنا ـ في المطلب الثاني من هذه الورقة ـ عن تقييم هذه الفكرة .

3 ـ البُعد السياسي :

يتعلق هذا البُعد السياسي بالساحة السياسية المصرية ، وما تشهده من صراعات سياسية بين التيارات الليبرالية والعلمانية من جهة ، والتيارات الإسلامية من جهة أخرى ، وذلك في الفترة السابقة على صدور الدستور المصري الحالي لسنة 2012 م ، حيث كان التيار الليبرالي والعلماني يخشى من أن يأتي الدستور معبراً عن إرادة التيار الإسلامي ـ ذي التوجه الغالب ـ بأطيافه المتنوعة ، ومن هذا المنطلق مثلث القواعد أو المواد فوق الدستورية نظرية سياسية يتحدد محتواها في الاتفاق الذي سيتم بين مختلف القوى السياسية في مصر حول المسائل أو المبادئ الدستورية الأساسيـة ، التي ستكون محـور الدستـور القادم ، ويكون لها صفـة الدوام والإطلاق والسمو ، وتكون محصنة ضد الإلغاء أو التعديل ولو بنصوص دستورية .

إنَّ هذا المعنى قد أكده الدكتور ( نوري فرحات ) بقوله ” إنَّ المواد فوق الدستوري هي الأحكــام التي لا يجـوز تعديلهـا أو تغييــرها أو إيقافهـا عند تعـديـل الدستـور أو تغييـره أو تعطيله … ” ([5]) .

المطلب الثاني

تقييم فكرة القواعد فوق الدستورية

من الناحية النظرية قد يُمكن قبول هذه الفكرة ، ولكننا نحتاج إلى تقييمها من الناحية العملية لنقرر ما إذا كانت تصلح لئن تكون أساساً قانونياً للقول بجواز مد نطاق الرقابة القضائية على الدستور استناداً إلى هذه الفكرة . وتتمثل أوجه هذا التقييم في الآتي :

أولاً ـ يُلاحظ على هذه الفكرة الغموض وعدم التحديد ، ويتأتى هذا الغموض من ناحيتين ، الأولى ، شكلية ، إذ لم يُحدد أنصار هذه الفكرة طبيعة هذه القواعد ما إذا كانت مكتوبة أم غير مكتوبة ، وكذلك مصدر هذه القواعد ، وعلى فرض أنها مكتوبة ما هي الجهة المختصة بوضعها هل هي السلطة التأسيسية ؟ أم سلطة أخرى فوق تأسيسية ؟ وهل ستخضع هذه الوثيقة أو القواعد للاستفتاء ؟ أم إنها تستند إلى فكرة القواعد الطبيعية أم شيء آخر ؟ .

أما الناحية الثانية ، وهي الناحية الموضوعية ، إذ لم يُحدد أنصار هذه الفكرة ـ على وجه التحديد ـ موضوعات هذه القواعد ، ولعلَّ هذا ما يزيد من غموض هذه الفكرة ويجعلها عسيرة التطبيق .

ثانياً ـ يُلاحظ على أنصار هذه الفكرة الخلط بين القواعد فوق الدستورية والمبادئ الأساسية للدستور نفسه ، أو ما يُمكن أن نسميه أحياناً بالقواعد الدستورية الجامدة سواءً كانت جامدة من حيث حظر تعديلها زمنياً أم موضوعياً ، فمن خلال الأمثلة التي أوردها هؤلاء نجدهم لم يأتوا بجديد لإثبات رأيهم ، بل إن ما قالوه هي قواعد أو مبادئ من صميم موضوعات الدستور وليست خارجة عنه ، ولهذا لا نرى في هذا الاتجاه أساساً عملياً للتمييز بين القواعد الدستورية والقواعد فوق الدستورية .

ثالثاً ـ هذه الفكرة في الحقيقة ، أي وجود قواعد فوق دستـورية ليسـت حديثة كما يظـن البعض ، بل سبق وأن قيلت قبل ذلك وتناولها بعض المفكرين الغرب أمثال ( برودون وبردو )، فكلاهما ميز بين الدستور السياسي ودستور آخر سمَّاه ( برودون ) الدستور الاجتماعي ، بينما سمَّاه ( بردو ) الدستور الطبيعي ، وأرى أن التسمية الأخيرة هي أقرب لرأي البعض الذي يرى أن الشريعة الإسلامية هي دستور طبيعي ، وإذا كان الدستور الأول ، أي الدستور السياسي أو المؤسسي يُعرف بدلالة السلطة التأسيسية ، فإن الثاني يُعرف بدلالته العفوية أو التلقائية ؛ لكونه يُعبر عن طريقة وجود الجماعة السياسية ، ولهذا هم وصفوا الدستور السياسي بالدستور الاصطناعي ، وفي هذا يقول ( برودون ) ” إني أميز بالنسبة لكل مجتمع نوعين من الدستور ، أحدهما أدعوه بالدستور الاجتماعي ، الآخر أدعوه بالدستور السياسي ، الأول ، قريب إلى قلب الإنسانية وتحريراً وضرورياً ، وتقدمه يمثل إضعافاً للثاني ، بقدر ما يبدو هذا الأخير اصطناعياً ومقيداً … ” ([6]) .

وعليه ، تظل هذه المفارقة هي مفارقة نظرية في فكر القائلين بها وليست واضحة ومحددة ليكتسبها جميع أفراد المجتمع ، وذلك بعكس التقنين القانوني الصادر عن السلطة المختصة ، فهو يخاطب كل الناس وهو واضح .

رابعاً ـ فيما يتعلق بالرأي الذي قال به Burdeau من أن إعلانات الحقوق تسمو على الدساتير ، فهو يبقى مجرد رأي قال به قلة ؛ لأن المسألة في الأساس هي عبارة عن قضية خلافية حول القيمة القانونية لإعلانات الحقوق ، إذ ظهر إلى جانب الرأي السابق رأيين آخرين الأول ، ينكر على هذه الإعلانات القيمة القانونية ، ويصفها بأنها مجرد عرض عقائدي أو فلسفي يفتقر إلى القابلية للتطبيق المباشر ، والثاني ، يجعل لإعلانات الحقوق قيمة مساوية لقيمة الدساتير ، وهذا الرأي الأخير هو الرأي الغالب وبه أخذت بعض الدول مِثل الولايات المتحدة الأمريكية .

خامساً ـ فيما يتعلق بالرأي القائل بأن الشريعة الإسلامية تُمثل قواعد فوق دستورية ، يُمكن الرد عليه وفقاً للآتي :

1 ـ إنَّ الشريعة الإسلامية حتى تكون أساساً للنظام القانوني في الدولة ؛ يجب أن يتم النص عليها في الدستور مصدراً أساسياً للتشريع ، وبمعنى آخر أن يعلن الشعب عن إرادته في الانتماء إليها واعتبارها مصدراً للتشريع ، فالشريعة الإسلامية لا تتمتع بالإلزام إلا بالنسبة للمسلم ، ومن ثمَّ فهذا الالتزام ينتفي بالنسبة لغير المسلم ؛ لكونه لا ينتمي إليها ، وعندما نتكلم عن النظام القانوني للدولة ، فإن هذا الالتزام القانوني لابد وأن يكون مقنناً في وثيقة قانونية تتمتع بالفوقية والسمو ، ولا ريب أن هذه الوثيقة هي الدستور ، وهذا التقنين القانوني هو جوهر الإعلان الذي يُعبر عنه النص الدستوري .

إنَّ هذا المعنى كانت قد أكدته المحكمة العُليا الليبيـة في حكمهـا الصـادر في القضية رقـم ( 3 / 36 ق ) بتاريخ 2 ديسمبر 1990 م ، وهي بصدد النظر في الطعن على القانون رقم 74 لسنة 1972 م بدعوى أن نصوصه تتعارض مع نصوص القرآن ، التي تشكل المصر الأول للشريعة الإسلامية ، حيث قررت ” والنص في هذا الإعلان ( تقصد ما يسمى إعلان سلطة الشعب ) بأن القرآن الكريم شريعة المجتمع كما هو موجه للكافة موجهٌ على وجه الخصوص إلى المشرِّع . فأحكام الشريعة الإسلامية لا تكتسب قوة الإلزام ـ التي تحظى بها قواعد القانون في المحاكم ـ إلا إذا تدخل المشرِّع فقننها … ” ([7]) .

إنَّ هذا ما أكده أيضاً الفقه القانوني من خلال القول ” إنَّ مبادئ الشريعة الإسلامية لا تصبح قاعدة قانونية إلا إذا أخذ بها المشرِّع نفسه … إن هذه المبادئ لا تصبح قواعد قانونية إلا بعد أن يتم المشرِّع عمله فعلاً بإصدار التشريعات المستوحاة من المبادئ المذكورة ” ([8]) .

2 ـ إن هذا الرأي ليس من شأنه أن يجعل الشريعة الإسلامية تأخذ المكانة السامية في النظام القانوني للدولة ؛ لأن تحقيق هذا الأمر يتطلب أولاً النص عليها في الدستور لتحقيق ثلاثة أمور ، الأول ، حتى تكون مصدراً رئيساً للتشريع ، والثاني ، وهو ضرورة موافقة التشريع مع أحكام الشريعة الإسلامية ومقاصدها وأغراضها الاجتماعية ، والثالث ، وهو تحقيق الرقابة القضائية على التشريعات ، فعندما يطعن بعدم دستورية تشريع ما أمام القضاء الدستوري ، فالحكم بعدم الدستورية لابد وأن يستند إلى نصٍ دستوري ، وهذا ما لا يُمكن تحقيقه من خلال القول بفكرة القواعد فوق الدستورية .

ومن ناحية ثانية ، يستند أنصار هذه الفكرة إلى مقولة أن تحكيم الشريعة الإسلامية أمرٌ يجب ألا يخضع للاستفتاء ، وهذا لا بأس به من حيث المبدأ ، ولكن ما يُؤخذ على هذا الرأي أنه لم يشخِّص المُشكلة تشخيصاً سليماً ؛ لأن المُشكلة ليست هنا ، بل المُشكلة تكمن في الصياغة القانونية للشريعة الإسلامية في الدستور ، فهذه الصياغة إما أن يكون من شأنها وضع الشريعة الإسلامية في مكانها الصحيح وإما ألا تكون في هذا الموضع ، كما أن هناك اختلافاً جوهرياً على شكل هذه الصياغة والمصطلحات المستخدمة ، فهناك من يرى أن الشريعة الإسلامية يجب أن تكون مصدراً وحيداً للتشريع ، وهناك من يرى أن تكون الشريعة الإسلامية مصدراً رئيساً للتشريع ، وهناك من يقول إن المقصود هو أحكام الشريعة الإسلامية ، وهناك من يرى أن المقصود هي المبادئ وهكذا .

ومن هذه الناحية يبرز ضعف هذا الرأي وعدم واقعيته ، وعدم إدراكه لخطورة النتائج المترتبة عليه .

وعليه ، فلامناص من أن النص على الشريعة الإسلامية في الدستور ذاته ؛ لتحقيق الأهداف المتقدمة ، وأن الصياغة القانونية التي تتعلـق بتحكيـم الشريعـة الإسلاميـة يجب أن تخضع للاستفتاء .

سادساً ـ من الناحية العملية لا توجد وثيقة قانونية تعلو الدستور في الدولة ، الذي يتربع قمة الهرم القانوني في الدولة ، فهو يسمو على كل ما عداه من قوانين وأعمال .

إنَّ هذا ما يؤكده فقاء القانون الدستـوري في مصـر في حديثهـم عن سمـو الدستـور ، واعتراضهم ـ من ناحية ثانية ـ على فكرة القواعد أو المواد أو المبادئ فوق الدستورية ، إذ يقول الفقيه الدستوري الدكتور ( إبراهيم درويش ) ” لا يوجد ما يسمى المبادئ فوق الدستورية معتبراً أنها نوع من العبث من جانب الأحزاب والمجلس العسكري والتفاف حول مشروع الدستور ” ([9]) .

كما أن هذه الحقيقة قد أكدها أيضاً الدكتور ( ثروت بدوي ) ، بقوله ” لا يوجد شيء اسمه مبادئ فوق دستورية ؛ لأن هذا يُخالف طبيعة الدستور الذي يتربع على أعلى قمة الهرم القانوني في أيَّ دولة ، ولا يُمكن وضع مبدأ أو قاعدة أعلى من الدستور ، وهذه المبادئ التي يُمكن الاصطلاح عليها كمبادئ أساسية يجب أن تكون حجر الزاوية لأيَّ دستور جديد ، وليست مبادئ فوق دستورية مِثل مبدأ المساواة واللجوء إلى القضاء ” وأضاف ” أنه يُمكن تحصين بعض المواد الدستورية من التعديل طوال فترة الاستقرار السياسي من خلال إضافة نصوص لها تحظر تعديلها … ” ([10]) .

سابعاً ـ إنَّ القول بجواز مد الرقابة القضائية على الدستور ، ومن باب أولى صدور أحكام قضائية بعدم دستورية نص دستوري استناداً إلى هذه الفكرة أو فكرة أخرى ؛ يُمثل اعتداءً على سيادة الشعب صاحب السلطة التأسيسية ، فالدستور ليس بقانون عادي كيما يُقال عنه ذلك ، كما أن الدستور ـ كأي قانون آخر ـ قابل للتعديل وليس نصاً قرآنياً في حال افتراض وقوع المخالفة .

وتجدر الملاحظة ـ في هذا الشأن ـ إلى أنه من الناحية العملية ، يكون من المتعذر أو من غير المتصور مُخالفة الدستور للشريعة الإسلامية ، لاسيما وأن هذا الدستور سيعرض في البداية كمشروع على الشعب في الاستفتاء ، ومن بين أفراد الشعب فقهاء الشريعة الإسلامية والمثقفين ، ناهيك على أن مسودة الدستور ستدرس من قِبل الشعب قبل مباشرته لحقه في الاستفتاء ، وكل ذلك يجعل من غير المتصور ـ عملياً ـ وجود المُخالفة .

والذي نخلص إليه مما تقدم أن فكرة القواعد فوق الدستورية هي فكرة نظرية إلى حدٍ كبيرٍ ولا تستند إلى حجج واقعية تجعل منها فكرة واقعية ، فكل ما قيل لا يخرج عن مبدأ سيادة الدستور ، بل إن هذه الفكرة أدت إلى تدعيم هذا المبدأ ، وفي النهاية لا يُمكن التسليم بها كأساس لمد نطاق رقابة القضاء لتشمل الدستور ، فضلاً عن أن رقابة القضاء على الدستور نفسه فيه اعتداء صارخ على سيادة الشعب .

تمَّ بعون الله وبحمده

 


[1] ) انظر د. نوري فرحات . المواد فوق الدستورية www . masrss . com .

[2] ) انظر رأيها في نفس الموضوع ، المرجع السابق .

[3] ) انظر د. ماجد راغب الحلو . النظم السياسية والقانون الدستوري ، الإسكندرية : مُنشأة المعرف ، 2005 ، ص 18 .

[4] ) قال بهذا الرأي السيد / نائب مفتي الديار الليبية الدكتور ( غيث الفاخري ) في حديث دار بيني وبينه بمسجد الأنصار ببنغازي ، وهو رأي غير منشور .

[5] ) راجع رأيه على موقع : www . masrss . com .

[6] ) مشار إليه لدى د. عبدالرضا حسين الطعان . التنظيم الدستوري في ليبيا بعد الثورة ، بنغازي ـ ليبيا : الطبعة الأولى ، الكتاب الثاني ، 1995 م ، ص 62 .

[7] ) المحكمة العليا . طعن دستوري ، العددان الأول والثاني ، 1992 ، ص 139 ـ 144 .

[8] ) انظر د. سمير عبدالسيد تناغو . النظرية العامة للقانون ، الإسكندرية : مُنشأة المعرف ، ( بدون تاريخ ) ، ص 262 .

[9] ) راجع رأيه على موقع أخبار الخليج : www. Akhbar-alkhaleej. Com .

[10] ) راجع رأيه ، نفس المرجع .

logo-m
مدينة طرابلس شارع ميزران بقرب مسجد ميزران
00218913778096
00218924266231
melyassir@yahoo.com
elyassir@hotmail.com

Copyright © Data Technology 2021