ليبيـــــــــــــا
منظمة الحقوقيين الليبيين
بحث بعنوان
تشريع عادل كفيل بإيجاد جهاز قضائي فاعل
قدم إلى المؤتمر العام الأول للنخب الوطنية والشخصيات الاعتبارية المتميزة
والذي عقد بمدينة بنغازي بتاريخ ، 5 ، 6/ 7 / 2012 ميلادية
تحث شعار
دعاة الوطنية وتوحيد التراب الليبي
إعداد : المحامي / محمد مفتاح اليسير
رئيس لجنة التوعية والتثقيف بمنظمة الحقوقيين الليبيين
مقدمة
بسم الله الرحمن الرحيم والصلاة والسلام على أشرف المرسلين سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين ، وبعد إنه لمن نافلة القول أن نتوجه بالدعاء للعلي القدير بأن يرحم شهداءنا وأن يعجل بالشفاء لجرحانا وأن يعيد المفقودين لأسرهم ودويهم ، وأن ينشر المحبة والوئام بين أبناء هذا الوطن ويصبحوا بفضله ونعمته إخوانا ، أيها الليبيون علينا جميعا أن نتذكر ونعي بأن الثوار عندما امتشقوا السلاح وواجهوا الموت بصدور عارية ــ سواء من استشهد منهم أو جرح أو قدر له النجاة ــ ، كان هدفهم إنهاء عبادة الأوثان في هذا البلد ، وإسقاط الصنم الأكبر، وإزهاق الباطل ، ليكون هناك متسعا في المكان لمن يبقى من بعدهم حيا يسمح له بوضع أسس العدل والحق ، وأن يفسح المجال للأجيال القادمة في بناء دولة يسعد كل من يعيش على أرضها ، لا بما يتحقق له من رخاء مادي ، أو رفاهية عيش ، بل بما يجده فيها من مقومات الحياة الكريمة في ظل نظام ديمقراطي عادل يرعى كرامة الإنسان ويحمي حرياته ، في حدود مفاهيم ومعتقدات المجتمع
وعلى هذا فإن علينا كليبيين أن نعي بأن الهدف الذي اجتمعنا عليه مند يوم السابع عشر من فبراير ليس مجرد إسقاط النظام ، بل هو إقامة دولة الحق والعدل والإنصاف ، وأن من واجب الجميع التبشير بالثورة وأهدافها ومبادئها السامية بالدعوة لها من خلال الكلمة الطيبة وبالتي هي أحسن ، وبنشر روح التسامح والتسامي على الصغائر والأحقاد ، فالشهداء لن يعودوا إلى الحياة من خلال الانتقام أو تهميش أو إقصاء بعضنا البعض ، والأهداف النبيلة لا يمكن بلوغها إلا بالوسائل النبيلة ، وعلى قدر أهل العزم تأتي العزائم وتأتي على قدر الكرام المكارم
ومن هنا يتعين على الليبيين عامة كل في مجاله وبحسب قدرته ، أن يسعى جاهدا نحو بناء دولة العدل ، لأنه حينها فقط سيكون بيعنا قد ربح ، ونكون قد صنا دماء شهدائنا من الضياع . لهذا اخترت أن يكون موضوع هذه الورقة هو البحث في كيفية بناء جهاز قضائي فعال ومستقل ، لأسهم من خلال عملي وفي حدود قدراتي في رسم ملامح الدولة التي أطمح أن أرها وأتفيئ بظلها ويعيش أبنائي وأحفادي من بعدي في كنفها
إن بناء جهاز قضائي فعال ومستقل هو عملية مركبة من عناصر عدة ، تبدأ من كيفية اختيار أشخاص رجال هذا الجهاز وفق ضوابط تضمن كفاءتهم ومهنيتهم ونزاهتهم وفي حدود نظام تشريعي يتكفل بمراقبتهم وتأديبهم وعزلهم ، وتنتهي ببيان حدود علاقة هذا الجهاز وهذه السلطة بباقي سلطات الدولة التشريعية والتنفيذية مرورا بوضع التشريعات التي يتكفل الجهاز القضائي بتطبيقها فيما يعرض عليه من منازعات ، وقد لا يكون من المناسب أن نعرج على كل هذه العناصر ، وأن نتناولها جميعا بالبحث في هذه العجالة ، حيث لا ولن يسمح المجال بذلك ، لهذا رأيت أن أجعل الموضوع قاصرا على استشراف التشريع الذي يمكن من خلاله سيتولى القضاء الفصل فيما يعرض عليه من منازعات كي نضمن بناء جهاز قضائي فاعل ، فقد نحسن اختيار القاضي ، بحيث يكون على درجة من الكفاءة والنزاهة والمهنية ، وقد نضمن استقلاله ، لكنه لن يكون قاضيا فاعلا ولن يكون قضاءه عادلا ، لا لشيء إلا لسوء ما بين يديه من تشريعات سواء الإجرائية منها أو موضوعية . لهذا فإنني سألقي الضوء في هذه الصفحات القليلة على بعض مثالب التشريعات النافدة سواء الموضوعي منها أو الإجراء عسى أن يسهم ذلك في وضع سياسية تشريعية أكثر نجاعة وأصلح للقاضي والمتقاضين ، وعليه فقد وضعت خطة لهذا البحث تبدأ من
1) توطئة وتمهيد : تحت عنوان لسنا مجبرين على اقتفاء آثارهم ، تناولت فيها بعض مظاهر الفكر الليبرالي موضحا أن تلك المبادئ جاءت كضرورة لتوفير البيئة المناسب للمذهب الرأسمالي ، وأن وجه التباين بين مفاهيم الحضارة الغربية وما تقرره الشريعة الإسلامية من أحكام ، ينحصر في اتساع دائرة المباح والمحظور ومثلت على ذلك ببعض المسائل الخلافية ، منتهيا إلى أنه من حقنا أن نأخذ من الغير بالقدر الذي يتماشى وشريعتنا ويضمن عدم انسلاخنا عن ماضينا وثقافتنا
2) وفي مبحث أول تناولت بعض المآخذ على القوانين الإجرائية والتي حالت دون قيام قضاء فاعل بسبب ما وضعته من عقبات ومعوقات أمام الخصومة وما سببته من إرباك للقضاة والمتقاضين ممثلا لذلك ببعض الأمثلة
3) ثم في مبحث ثاني تناولت بعض المآخذ على القوانين العقابية داعيا إلى اعتماد سياسية تشريعية تأخذ بمنهج العدالة التصالحية التي أخذت به الشريعة الإسلامية لما له من فوائد في بناء مجتمع متماسك مستقر
4) ثم أنهيت الورقة بخاتمة خلصت فيها إلى ضرورة مراجعة التشريعات القائمة مراجعة شاملة وإعادة إصدارها في ثوب يضمن تسير سبيل التقاضي ويضمن وصول المتقاضين إلى حقوقهم بأيسر الطرق والابتعاد على النظريات الفقهية العقيمة التي تحترم الإجراء وتقدسها أكثر من احترامها للحقوق ، ومراجعة التشريعات الموضوعية بما يضمن تحقيق وإرساء مبادئ عادلة خاصة ما يتعلق منها بقواعد الإثبات
والله الموفق
تمهيد
لسنا مجبرين على اقتفاء آثار الغير
إن مهام الدولة الحديثة وواجباتها وحقوقها ومفهوم سيادتها تطور في القرنين الماضين تطورا كبيرا وفق الأبعاد الفكرية والاقتصادية والسياسية والاجتماعية للنظام الرأسمالي الليبرالي ، بما جعل من الدولة تدخل في أدق تفاصيل حياة الإنسان اليومية ، وترسم مستقبله ومستقبل أبناءه ، دون أن يحس أو يشعر بذلك ، وقد عبر عن هذا المعنى الكاتب الشهير أندرو فنست في كتابه نظريات الدولة عندما قال ( إنه من الصعوبة بمكان حاليا أن ندرك الحياة بدون الدولة ، وإن بنية الدولة لا تمثل فقط مجموعة من المؤسسات بل أيضا جسما من الاتجاهات والممارسات وقواعد السلوك ، باختصار حياة التمدن السياسي ……ولكن على مستوى أكثر من الوضوح فإن الدولة تتخلل بدقة متناهية في كثير من شؤون حياتنا ، فنحن نعيش حياتنا من بدايتها وحتى نهايتها في إطار محدداتها ، وهكذا ، فكما هي الدولة فكرة معقدة فهي أيضا تجسد حقيقة الحياة اليومية بدرجة لا نستطيع تجاهلها …)
فالدولة الحديثة كما تتدخل في معظم مناحي الحياة عن طريق فرض الضوابط والقيود ورسم مجال السلوك للأفراد ، فهي من جهة أخرى ترفع القيود وتطلق العنان للحريات ، طالما أن تلك الحريات تخدم بشكل مباشر أو غير مباشر النظام الرأسمالي الليبرالي ، فلا حدود ولا قيود على أي نشاط اقتصادي طالما لم ينطوي على مخادعة أو غش أو سرقة مكشوفة ، ولا حدود ولا قيود على الاستهلاك طالما أن ذلك يشجع ويسرع عجلة الإنتاج ، ولا حدود ولا قيود على حرية الرأي أو المعتقد ، طالما أن ذلك يوفر المساحة المطلوبة لإقامة نظام ليبرالي ، لا لأنه النظام الأكثر إنسانية أو تجاوبا مع مصلحة البشر ، بل لأنه يمثل المناخ الأكثر ملائمة لنمو نظام اقتصاد السوق ، فمنظومة القيم الليبرالية ليست سوى الإطار العام والأرضية الصالحة للنظام الرأسمالي
وإن كان للنظامين الرأسمالي والليبرالي من مزايا لا يسع أحد إنكارها فإنها تتمثل وتنحصر في ذلك التناوب السلمي والسلس على السلطة وفيما تحقق في ظلهما من تقدم تقني وعلمي ابهر الإنسان الشرقي عامة والإنسان المسلم خاصة ، وكان من نتائج ذلك اعتناق الكثيرين منا جميع مبادئ ومفاهيم الحضارة الغربية ، ضنا أن ذلك سيقودنا إلى نفس الغاية ، ويصل بنا إلى حيث وصلوا ، دون أن يفكر أحد منا بأن التقدم التقني أو العلمي لم يكن نتيجة حتمية لجميع تلك المفاهيم بل جاء كنتيجة لتوظيف المعرفة والتعامل معها على أنها مشروع اقتصادي من خلال سياسة اقتصادية كثيرا ما تتسم بطابع الاحتكار المعرفي الذي قد يجعل من العلم مفيدا للأقلية وضارا بالأكثرية . وإذ نقول ذلك فإننا لا نصف النظام الرأسمالي أو الليبرالي بأنه الشر المطلق ، ولكننا في ذات الوقت لا نقول بضرورة اعتناقه بالكلية ولا نصفه بأنه الخير المطلق ، وننسلخ في المقابل عن ثقافتنا ومعتقداتنا وحضارتنا وشريعتنا ونتنازل عن ماضينا لصالح مفاهيم الحضارة الغربية ، فالأمة الإسلامية ليست شعبا بدائيا يعيش في أدغال أفريقيا حتى يمكن أن يؤخذ بيده ويرشد إلى طريق أهدى مما هو عليه ، كما أنها ليست أمة خالية الوفاض من أي تراث فكري أو ثقافي أو تشريعي حتى يمكن تأهيلها بواسطة ما ابتكره الغير لنفسه من أنظمة اقتصادية وسياسة واجتماعية ،
فلهذه الأمة شريعتها ومعتقداتها وثقافتها ومفاهيمها وتجاربها وهي وإن تأثرت بالثقافات الأخرى فإن تأثيرها في الغير ( حتى في زمن ضعفها ) كان أقوى بكثير من تأثرها ، ومرد ذلك أن مصدر الإلهام الثقافي والفكري للأمة الإسلامية مرتبط ارتباط وثيق بالعقيدة والشريعة الإسلامية ، ولن نكون بعيدين عن الصواب إن قلنا إن إغفال هذه الحقيقة ربما كان هو السبب الرئيس وراء إخفاق وفشل محاولة الإصلاح والنهوض بالأمة الإسلامية ، حيث كانت تلك المحاولات تتجاهل خصوصية الأمة ومعتقداتها ، وتحاول أن تنهض بها من خلال نظم تشريعية لا تحظى بأي قدسية ، مما يجعلها تصطدم مع ما ترسخ في النفوس من معتقدات إيمانية ، وتخلق شبهة حالة انفصام في شخصية أبناء الأمة ، إذ يصبحون مشتتين بين ما يقتضيه الإيمان من تسليم وانقياد لأحكام الشريعة الإسلامية وبين الانصياع لتشريع وضعي
فالاعتقاد الذي لا يتم إسلام المرء إلا به ، هو تنزيه الذات الإلهية عن كل نقص واثبات جميع صفات الكمال لها من (( قدرة وعلم وخبرة وحكمة …..إلخ )) وهو ما يقتضي وبطريق اللزوم العقلي التسليم بكمال وسلامة وصحة وصواب التشريع الذي أوحى به الله إلى نبيه وعدم إجراء أي مفاضلة بينه وبين أي تشريع وضعي آخر ، لقوله تعالى ( فلا وربك لا يؤمنن حتى يحكموك فيما شجر بينهم ولا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما )
ومن المؤسف أن نقول أن بعض العلماء من المسلمين ، يسايرون نظرائهم من العلماء في الغرب في نظرتهم للأديان ، حيث يرون فيها مرحلة من مراحل تطور البشرية ، وأن هذه المرحلة قد أدت دورها وانتهى أمرها حين كانت البشرية في طفولتها ، وأما وقد وصلت البشرية إلى مرحلة النضج فلم يعد بها من حاجة إلى الغيبيات وما وراء الطبيعة وكل ما كان يستخدم للتحكم في الإنسان الجاهل
وهذا القول والذي تلقفه بعض علماء الاجتماع والمثقفين من أبناء الأمة الإسلامية من نظراءهم في الغرب لا يصدق على الإسلام لأن الإسلام ليس مجرد عقيدة كالمسيحية بل هو عقيدة وشريعة ومن هنا نقول بأننا لسنا مجبرين بأن نقتفي آثار غيرنا في كل شيء ، وأن نبني على ذات الأسس والمبادئ والمفاهيم والمقاييس التي شادوا بها بناءهم ، سواء في المجال الاقتصادي أو السياسي أو الاجتماعي ، فمن حقنا أن نكون رأسماليين في حدود الكسب المشروع الذي يقرره الإسلام والإنفاق المعتدل الذي لا إسراف فيه ولا تقتير، بل هو بين ذلك قواما ، وأن تكون لنا توجهاتنا السياسية ومنهجنا وأسلوبنا في إدارة الدولة وأن ندخل على لعبة الديمقراطية من التحسينات بالقدر الذي يرتقي بها من مستوى اللعبة إلى مستوى الممارسة الجادة المسئولية ، بحيث لا تكون المشروعية ( والمتمثلة في رأي الأغلبية ) هي مناط الحكم ، بل لابد من وضع ذلك كله تحت إطار عادل يضمن عدم استبداد الأكثرية وعدم انحرافها ، فالعدل هو أساس الحكم وهو محل الاعتبار الأول بالنسبة لنا كمسلمين ، وذلك لا يكون إلا من خلال تشريع عادل لا تغيره الأكثرية ، لأن المجتمع بأكمله يكون قد توافق عليه مند البداية ، كما أنه من حقنا أن نبني نظامنا الاجتماعي وأن نضع من الضوابط المنظمة للسلوك ما نراه منسجما مع معتقداتنا وأخلاقنا وقيمنا وأعرفنا ، وليس لأحد الحق في أن يعيب علينا ذلك فالاختلاف بيننا وبين الغير في هذا السياق هو في مقدار ما هو مباح وغير مباح ، فما من مجتمع إلا وله ضوابط تنظم سلوك أفراده فإن كانت بعض المجتمعات تسمح للرجل أن يعاشر ما شاء من النساء دون قيام رابط الزوجية ، ولا تسمح له إلا بالزواج من واحدة ، فإن الإنسان المسلم ليس من حقه أن يعاشر النساء بدون عقد زواج ، ولكن من حقه أن يتزوج بأكثر من واحدة ، فالفرق من حيث الكم في أن ما هو محظور بالكلية هنا مباح بالكلية هناك ، وأن ما هو مباح هنا محظور بعضه هناك ، والفرق من حيث الكيف أن العلاقة الاجتماعية هنا منضبطة وعلنية ، بينما تكون هناك غير منضبطة وفي علن يشبه السر ، وسر يشبه العلن ، وبالتالي فلا إهدار لكرامة المرأة المسلمة أو مساس بحقوقها في التعدد ، لأنها عندما قبلت أن تكون مسلمة أو زوجة لرجل مسلم قبلت ضمنا أن تكون زوجة من بين زوجات معلومات العدد ، في مقابل ما ضمنته لها الشريعة الإسلامية من أن لا تصبح زوجة بين عدد غير متناهي من الخليلات والعشيقات ، وكذلك فإن الرجل المسلم قبل مند إسلامه أن يغض بصره ويحفظ فرجه إلا على أزواجه ، في مقابل أن يتزوج بأربع إذا توفرت لديه القدرة على الإسكان والإنفاق والمعاشرة والعدل بينهن
وعلى هذا المنوال يمكن أن نقيس كل مسائل الخلاف بين المفاهيم الغربية وما تنادي به الشريعة الإسلامية بدأ من لابس المرأة ومرورا بحرية الرأي والفكر ، ففي كل أمر نجد أن وجه الخلاف في حدود ما هو مسموح به وغير مسموح ، فإذا كانت بعض المجتمعات الغربية التي تأخذ بالديمقراطية وتعتنق مبادئها تعاقب من أنكر واقعة المحرقة ( أو ما يعرف بالهيلوكوست ) وهي حدث تاريخي لا يزال محل أخذ ورد ، ولا تعاقب من شكك في إرسال المسيح عليه السلام، فمن حقنا في المقابل أن نمنع التقول على الرسول والطعن في الأديان ، لأن ما سيلحق بالشعور الإنساني من أذى بسبب ذلك أكبر بكثير مما سيلحقه لو أنكرت واقعة المحرقة .
ولهذا فإنني أخلص إلى أن الديمقراطية ليست نموذجا ولا منظومة فكرية أو سياسية جامدة تأخذ كلها أو ترفض كلها ، ولسنا مجبرين على اقتفاء آثار غيرنا في كل ما ذهبوا إليه ، بل من حقنا أن نضيف وأن نعدل، وأن نزيد وننقص ، بحسب ما يتماشى مع عقيدتنا وينسجم وأحكام شريعتنا ، طالما حافظنا على مبدأ التناوب على السلطة بشكل سلس وسلمي ، وحافظنا بتشريع عادل على حقوق الإنسان في الحياة الحرة الكريمة وفق مفاهيمنا وليس وفق مفاهيم الغير
المبحث الأول
عيوب التشريعات الإجرائية وبيان بعض المآخذ عليها
1) إن الفكرة القائلة بأن الدعوى المدنية هي ملك للخصوم والمبالغة في طلب الحيدة من القضاء بشأنها رتب إشكالات عدة ، حيث ألقى بأعباء الخصومة على المدعي سواء من الناحية الإجرائية أو من ناحية الإثبات ، فأصبح المدعى عليه مجرد صياد فرص يقتنص أخطاء المدعي في العمل الإجرائي أو عجزه عن تقديم الدليل كاملا ليطيح بخصمه ويهدم ما بناه ، وكثيرا ما يكون المدعى عليه هو السبب الرئيس في حصول الخطأ الإجرائي أو عدم قدرة المدعي على تقديم الدليل ، كما ترتب عن هذه الفكرة أن أحيط المدعى عليه بضمانات غير مبررة مما رتب إشكالات عملية انعكست سلبا على حقوق المتقاضين ، وهذه الفكرة تنطوي على إغراق في تقديس مذهب الحرية الفردية وتقديمها على مصلحة الجماعة ، فالدعوى المدنية من الناحية الإجرائية أو من جوانب الإثبات لا يجب النظر إليها على أنها حق للمتقاضين ، بل هي وسيلة للتقاضي ابتدعتها الجماعة ، وهي ملك لها ويتعين على الجميع بما فيهم المدعى عليه الإسهام فيها وتيسرها ، ولا يجب أن نقبل من المدعى عليه مجرد الوقوف منها موقف المتفرج أو المدافع ، بل يجب أن يجبر في البعض الأحايين على التجاوب معها والرد على ما يمكن أن يوجه له من أسئلة واستجوابات دون أن يسمع قوله بأن عبء الإثبات يقع على المدعي ، ومثالنا على ذلك الدعوى التي يرفعها أحد الورثة في مواجهة وريث آخر يطالبه بقسمة أملاك مورثهم التي هي تحت حوزة وتصرف المدعي عليه ، حيث يلجأ عادة المدعى عليه في مثل هذا الحال إلى الصمت معتمدا على أن المدعي هو المكلف بإثبات أن العقار موضوع القسمة هو ملك في الأصل لمورثهم ، وهو موقن بأنه لن يكون في مقدور المدعي تقديم الدليل على ذلك ، لأن الدليل إما أن يكون تحت حوزة المدعى عليه أو تحت يد أخرى غير يد المدعي ، ومدركا أن القاضي بحكم تبنيه لفكرة أن الدعوى المدنية ملك لخصومها لن يقوم باستجوابه حول كيفية تملكه أو حيازته للعقار موضوع التداعي ، فيكتفي بالوقوف موقفا سلبيا من الخصومة إما بعدم الرد عليها أو بنكران أن يكون العقار موضوع الدعوى ملك لمورثهم ، ومن هنا فإنه يتعين إعادة النظر في أسس ومفاهيم ونظريات التشريعات الإجرائية إعادة شاملة وإصدارها في ثوب جديد أخذا في الاعتبار بأن الخصومة المدنية هي ملك للجميع وأن القاضي لا يجب أن يقف منها موقف الحياد التام ، وأن يجبر الجميع في الإسهام في تيسيرها سواء من الناحية الإجرائية أو من جهة الإثبات حتى نظم إيجاد قضاء فاعل
2) إن القوانين الإجرائية المعمول بها في ليبيا سواء قانون المرافعات باعتباره القانون العام أو قانون الإجراءات الجنائية لم تكن في يوم من الأيام وسيلة صالحة لا للقاضي ولا للمتقاضي ولا للقضية ، وإن كان بعض العاملين في مجال القضاء والمحاماة من يعيبها بمقولة أنها لا تتناسب ووعي وثقافة المجتمع الليبي وهذا إطراء مبطن لها ، إذ كأني به يقول بأنها أرقى من ذلك ، إلا أنها في الحقيقة أنظمة إجرائية سيئة بكل المعاير حيث أغرقت في الشكلية فأرهقت القضاة والمتقاضين دون أن يكون وراء ذلك من الغايات ما يبرره ، وسنسوق في هذه العجالة بعض الأمثلة على ذلك ونبين بعض المآخذ عليها
فالبطلان مثلا في قانون المرافعات يرتب أثرا بالغا في مسار الخصومة وكثيرا ما يكون سببا في ضياع الحقوق ويجعل المتقاضين كمن يمشي داخل حقل من الألغام عرضة لأن يفقد حياته أو طرفا من أطرافه في أي لحظة ، فالإعلان الباطل يصحح بالحضور ، وعدم الحضور قد يترتب عنه أن يستمر القاضي في نظر الدعوى إذا لم يتفطن إلى ما اعترى الإجراء من بطلان ، أو اعتبر الإجراء صحيحا خلافا لما رآه الخصم المتغيب ، والرد على الإجراء الباطل دون التمسك ببطلانه هو تصحيح ضمني له ، فمرة شرع البطلان لمصلحة الخصوم ومن حقهم أن ينزلوا عنه صراحة أو ضمنا ، بينما نجده قد شرع مرات أخرى لمصلحة الخصومة ومن حق القاضي أن يقضي به من تلقاء نفسه ولو لم يطلب الخصوم ذلك .
ولما كان القضاء في الأساس وسيلة لاقتضاء الحقوق كي لا يلجأ الناس إلى اقتضاءها بطريق الاحتكام إلى القوة ، فإنه بهذا الاعتبار يتعين أن يكون الطريق إليه سهلا ومعبدا ، وأن تمد يد العون إلى من يريد اللجوء إليه ، لا أن توضع أمامه العوائق والمتاريس من خلال نصوص لا نجد لها أي منطق من الموضوعية يبررها سوى منطق التقعيد النظري لأفكار وتصورات لا تخدم غرضا ولا تحقق غاية ، فجميع إجراءات الخصومة يجب أن نختصرها في عريضة تودع بقلم كتاب المحكمة تتضمن أسماء الخصوم ومحال إقامتهم وموضوع الدعوى والطلبات ، ولا نحمل أي طرف من أطراف الخصومة مسئولية أي إجراء آخر وتعتبر المطالبة القضائية قائمة مند يوم الإيداع لا من يوم إعلانها للخصوم سدا للذرائع ، كما يجب أن ينص قانونا على وجوب أن يتخذ الخصوم مواطنا مختار لهم في البلد الذي به المحكمة ليتم إعلانهم بأي إجراء من خلاله وأن تكون الأحكام نافذة وتسري مواعيد الطعن عليها من تاريخ صدورها في حق من صدر الحكم في حضوره وألا نترك المواعيد لمشيئة المتقاضين قفلا لأبواب الخصومة بدلا من أن نتركها مشرعة يستخدمها أصحابها متى ويتخيرون الوقت المناسب لذلك
3) إن توزيع الاختصاص في المنازعات المدنية بين المحاكم الجزئية والمحاكم الابتدائية لم يعد له ما يبرره ( إن كان هناك ما يبرره في الأصل ) حيث أصبح هذا التوزيع اليوم عاملا من عوامل الإرباك للخصوم والقضاة ، فالاختصاص القيمي للقاضي الجزئي لم يعد له على الواقع وجود ، حيث أصبحت طلبات الخصوم في معظمها تتعدى هذا النطاق ، وما أسند للقاضي الجزئي من اختصاص استثنائي بموجب نص المادة الثالثة ولأربعين لا يبرر لوحده إنشاء محكمة جزئية مستقلة إذ لم يعد يوجد من بين الفقرات التي تناولتها المادة المذكور سياقا مفعلا إلا دعوى التعويض الناشئة عن جنحة أو مخالفة ، وقد أصبح هذا السياق يضيق كل يوم بحكم ما طرأ من تعديل على النصوص العقابية ، وما سوى ذلك من دعاوى تناولتها المادة المذكورة في باقي فقراتها فإنه لم يبقى لها وجود على الواقع العملي ، فاليوم لا وجود لأجرة تقل قيمتها عما هو محدد في الفقرة الأولى من هذه المادة ، كما أن دعاوى تعين الحدود غالبا ما تكون منطوية على نزاع في أصل الحق مما يجعل المحكمة الجزئية مجبرة في أغلب الأحوال إلى إحالتها إلى المحكمة الابتدائية للفصل فيه ، ومن هنا فإن توزيع الاختصاص سواء القيمي أو النوعي بين المحاكم الجزئية والابتدائية لم يعد له ما يبره حيث أصبح سببا في إطالة أمد الخصومة وإرباك المتخاصمين والقضاة ، وبالتالي فإن المحاكم الجزئية يجب أن ينحصر اختصاصها في مسائل الأحوال الشخصية تسهيلا على المتقاضين بحكم قربها منهم وأن تحال اختصاصها في مجال القضاء والمنازعات المدنية إلى المحاكم الابتدائية حتى لا تصبح الدعوى مشتتة بين من يختص بالفصل في أصل الحق وبين من يختص بالفصل في المسائل العارضة
المبحث الثاني
عيوب التشريعات العقابية والدعوة للأخذ بمنهج العدالة التصالحية
إن بناء مجتمع متماسك ومترابط لا يكون إلا من خلال نظام تشريعي يسهم في خلق حراك اجتماعي في مجال تسوية المنازعات والخصومات وخاصة الجنائية منها ، وذلك من خلال اعتماد أسلوب ومنهج العدالة التصالحية ، والتي تسمح بتسوية الوقائع الجنائية بطريق التصالح بين المتهم والمجني عليه حيث تنقضي الدعوى الجنائية بمجرد عفو المجني عليه أو وليه
فالعدالة التصالحية في المسائل الجنائية أضحت ضرورة قانونية واجتماعية ، ذلك لأن العدالة الجنائية بمفهومها التقليدي لم تعد قادرة على الوفاء بتحقيق الأهداف المبتغاة من العقوبات لا سيما فيما يتعلق بالردع الخاص من جهة معاملة المحكوم عليه معاملة تكفل إصلاحه وتأهيله اجتماعيا ، ولا بمتطلبات الدفاع عن المجتمع من الجهة أخرى
وهذا النوع من العدالة هو ما يجب أن يصار إليه في جميع الجرائم التي تتعلق بحقوق الأفراد ، لأن السياسة الجنائية التي لا تحمي الحقوق الخاصة لا يمكن أن تسهم في استقرار المجتمع ، كما لا يمكن أن تؤسس لمجتمع متماسك البنيان ، فضلا على أن هذا النوع من العدالة من شأنه أن يرسخ أسس وقواعد نظرية الدفاع الاجتماعي ، والتي مؤداها أن يبادر الناس من تلقاء أنفسهم فيما بينهم بالنهي عن المنكر والأمر بالمعروف ، وأن يتخذوا مواقف من المسيء تعبر عن رفضهم لفعله ، فهذا الموقف لوحده يعد عقوبة يوقعها أفراد المجتمع على الجاني وهي قد تكون ذات أثر أقوى من أي عقاب يوقعها القضاء
ورغم الفوائد الجمة للعدالة التصالحية فإن المتفحص للنصوص العقابية في القانون الليبي سيجدها تضيق من نطاق تطبيق هذا النوع من العدالة ، وذلك كنتيجة حتمية لتوسعها في فكرة النظام العام بحجة تغليب مصلحة الجماعة على مصلحة المجني عليه ، فالكثير من الجرائم تقع على الأفراد وتؤثر في مراكزهم وحقوقهم دون أن يكون لهم الحق في تحديد مسار الدعوى الجنائية أو التدخل فيها إلا بوصفهم مدعين ، وهو ما يسبب في غالب الأحيان في زيادة إذكاء روح العداء بين المتهم والمجني عليه ، وكثيرا ما يكون سببا في ضياع حقوق المجني عليه بالكلية ، ومن أمثلة ذلك الصكوك التي يصدرها بعض الأشخاص لصالح آخرين دون أن يوجد رصيد يقابلها ، فإن المشرع في قانون العقوبات أو قانون الجرائم الاقتصادية اعتنى بحماية الورقة التجارية وهي الصك وجعلها هدفه الأسمى وغايته القصوى دون أن يعير أي اهتمام لحقوق المجني عليه ، ودون أن يرتب على تنازله أي أثر، وهو لو فعل لأسهم في إيجاد وسيلة يقتضي من خلالها المجني عليه حقه ويسترجع بعض أمواله ، ويرفع ما يمكن أن يقع في النفوس من ضغائن وأحقاد
كما نجد في جناية إضرام النار في ملك الغير ( 297 عقوبات ) مثالا آخر على عدم تعويل المشرع على منهج العدالة التصالحية حيث لم يجعل المشرع لتنازل المجني عليه وتصالحه مع المتهم أي أثر في مسار الدعوى الجنائية ، وإن كنا نلحظ بعض الأثر من خلال تخفيف العقوبة في حال التصالح فإن مرد ذلك هو شعور القضاء بضرورة تقدير هذا الصلح وحث الناس على التصالح من خلال إبرازه في شكل حكم مخفف وهذا إقرار من الفقه القضائي بمزايا العدالة التصالحية ودعوة شبه صريحة للأخذ بها والنص عليها في القوانين
ومع أن بعض التشريعات في ليبيا قد أخذت في أول الأمر بمبدأ العدالة التصالحية كما كان عليه الحال في قانون حدي السرقة والحرابة ، وقانون حد القذف ، وقانون القصاص والدية ، إلا أن المشرع الوضعي ما لبث أن تراجع عن ذلك إما بإلغاء قواعد العدالة التصالحية كما هو عليه الحال في التشريع الأخير لقانون حدي السرقة والحرابة أو بالحد من أثرها وتضيق نطاقها وإنقاص مفاعيلها ، كما فعل في آخر تعديل لأحكام قانون القصاص والدية حيث حد من أثر عفو أولياء الدم على العقوبة بأن جعل عقوبة القاتل عند العفو السجن المؤبد بدلا من الإعدام وهو أثر محدود لا يشجع الناس على التصالح أو السعي إليه
والجدير بالذكر أن العدالة التصالحية التي ينادي بعض فقهاء القانون اليوم بالتوسع في تطبيقها وتطالب بعض المؤسسات الدولية باعتمادها ضمن السياسة العقابية ، هي ليست بالشيء الجديد المبتكر بل هي تمثل رجوعا إلى الماضي وتحديدا إلى مبادئ الشريعة الإسلامية التي اعتمدت هذه السياسية وجعلت من الصلح والعفو وسيلة لانتهاء وانقضاء الدعوى الجنائية إلا ما كان فيها الحق خالصا لله وحده ، وبالتالي فإنه لا يمكن بناء جهاز قضائي فاعل إلا من خلال التوسع في تطبيق العدالة التصالحية بالشكل الذي يرفع عن كاهل القضاء عبء الفصل في الكثير من الخصومات
خاتمة
من خلال ما سبق يبين بوضوح تام أن ما بين القضاء الليبي من تشريعات نافذة اليوم لم تعد في واقع الأمر صالحة ، لا من الناحية الإجرائية ولا من الناحية الموضوعية ، وأن الاحتفاظ بها والإبقاء عليها هو إبقاء لفيروس قاتل ينخر كل يوم في جسم الجهاز القضائي ، وما نلحظه اليوم من بطأ وتراخ في الفصل في الخصومات وعيب وخلل في الأحكام مرده في أغلب الأحيان إلى عيب في التشريعات مما يتعين معه إعادة النظر فيها سواء الإجرائية منها أو الموضوعية على أن لا يتم ذلك في شكل إصلاحات جزئية ، فالخلل لا يمكن في صياغة النصوص بل في الأفكار والنظريات الفقهية التي أسست عليها تلك النصوص ، مما يحتم أن تكون إعادة النظر شاملة مصحوبة بدراسة فقهية متأنية ، تعتمد مبدأ تسير الخصومة بما يتماشى ومنطق العدل والإنصاف ، أخذا في الاعتبار بأن الخصومة وسيلة لاقتضاء الحقوق لا لشيء آخر ، وأن المجتمع معني بتيسيرها ضمانا للاستقرار الأوضاع فيه ، دون النظر إلى أي اعتبار آخر ، وأن حق اللجوء إلى القضاء هو حق للأفراد بحيث ينتهي دور القاضي في حال تصالح المتقاضين سواء كانت الدعوى جنائية أو مدنية ، وأن يتم ذلك كله بالعودة إلى أحكام الشريعة الإسلامية والاهتداء بهديها والاقتداء بها ، لأننا ملزمون بالنزول عند أحكامها وهي غنية بما فيه الكفاية، متنوعة بما يسهل علينا إيجاد حل لكل المعضلات ، مرنة بما يسمح لنا باستحداث تشريع لكل ما يستجد من معاملات والله الموفق .
المحامي / محمد مفتاح اليسير