قضية وحكمتعليق على الحكم الصادر في القضية رقم 2 لسنة 2002 م جنح الهيشة للأستاد المرحوم محمد المهدي

وفاء لأستاذنا وشخينا وزميلنا المحامي المرحوم محمد المهدي موسى السوكني رأيت أن استهل هذه الصفحة بنشر تعليق له على الدعوى رقم 2 لسنة 2002 م جنح الهيشة ، وقد نتفق مع هذا التعليق أو نختلف ، لكن الشيء الذي لن يختلف فيه كل من عرف وتعرف على الأستاذ المرحوم محمد المهدي موسى أن هذا الرجل حالة نادرة الحدوث في أوساط مهنة المحاماة ، حيث قل أن تجد محاميا شبه متفرغ لتقديم العون والدعم القانوني لزملائه وللعاملين في المجال القضائي ، حتى أصبحت قاعة المحامين بمحكمة استئناف طرابلس هي ملاد كل من يواجه معضلة قانونية او فقهية إذ ليس على صاحبها إلا أن يحضر إلى تلك القاعة مبكرا عند بداية الدوام الرسمي ليجد الأستاذ المرحوم محمد المهدي قد بدأ درسه وحلقة نقاشه الصباحية ، يستقبل الاستفسارات ، ويرد على التساؤلات ، ويجادل بالحسنى أصحاب الآراء المخالفة ،  فيقر من كان على صواب ، ويخطا من كان على خطأ بأدب المعلم الذي يظهر بمظهر المتعلم ، حتى عرفت القاعة باسمه فأصبحت تسمى وهو حي يرزق بقاعة محمد المهدي موسى أو قاعة ( محمد السوكني ) ،  واحتفظ لها بهذا الاسم بعد وفاته تخليدا لذكراه وتمجيدا لعطائه ، ذلك العطاء الذي لا يجود به إلا كريم لا يحتكر المعلومة ، ولا ينظر إليها على أنها رأس ماله الذي عليه أن يوظفه ويزاحم به الغير من أبناء مهنته،  وبهذا كان فريدا ، وكان متفردا عن غيره في طباعه حتى أنه إذا لم يسعه أن يجيب السائل فلا يتعجل الفتوى ولا يقطع برأي ، ويطلب من المستفتي أن يعطيه مهلة من الوقت حتى يتدارس المسألة ويشبعها بحثا ، فهو لا يكتفي بأن يعطي من رصيده المعرفي بل يتعدى ذلك حتى يعطي من وقته وجهده ، وقد كان مثالا نادرا في القناعة ، يحيل القضايا التي تعرض عليه لغيره ، مشفوعة  بآرائه ومعززة باجتهادات ، وكان ظاهرة غريبة في حب المعرفة والاطلاع والبحث ، يجد لدته في مطاردة الآراء الفقهية ، والاجتهادات القضائية ، أكثر مما يجدها في مطاردة النقود المعدنية والورقية ، وأنا على يقين بأني لن أستطيع في هذه المقدمة أن أوفي هذا الرجل حقه وقدره ومكانته ، فلا أذكر من حسناته إلا ما رأيته يفيض به علي وعلى غيري من الزملاء وتلك هي في الواقع غيض من فيض وسيعذرني في ذلك كل من تعرف عليه وعرفه عن قرب وفي الختام فإني أستأذن أسرة فقيدنا في أن انشر بعض أعماله ليعرفه من خلالها من لم يعرفه خلال حياته وليتذكره زملائه وأصدقاءه ورفاقه فيناله من تذكرهم دعواتهم ودعواتنا له  بالرحمة والمغفرة .

 

تعليق على حكم الجنحة رقم 2 لسنة 2002 م الهيشة الصادر بتاريخ 23 ـ 1 ـ 2003 م

 

أولا / موجز الواقعة والاتهام والحكم

اتهمت النيابة العامة المتهم لأنه بتاريخ 23 ـ 4 ـ 2002 م وبدائرة مركز الشرطة الهيشة الجديدة قتل المجني عليه خطأ ودون قصد أو تعمد وذلك بأن دهسه بآلة رفع مهمات ( فوركة ) التي كان يقودها عندما سقط أمامه على إحدى الأسنان الأمامية للآلة ونجم ذلك وفاته ، وقدمته للمحكمة طالبة عقابه بمقتضى المادة (3 ) من القانون رقم 13 لسنة 1423 م والمادة ( 377 ) عقوبات .

حيث أن المتهم بتاريخ الواقعة كلف بالعمل رفقة المجني عليه وآخرين من قبل أحد المهندسين بموقع العمل بإدخال أكياس البودرة داخل المخزن بواسطة الآلة ( فوركه ) لوجود بعض الأمطار ، وبينما كان المتهم يقود الآلة كان المجني عليه راكبا على أحد أسنانها ، فطلب منه المتهم النزول إلا أنه أبى ، وعندما شرع المتهم بالدخول بالآلة داخل المخزن سقط المجني عليه من على السن مما أدى إلى دهسه بعجلة الآلة ، فرفع إلى المستشفى ولكنه فارق الحياة نتيجة للإصابات التي حصلت ، فاعترف المتهم بحصول الواقعة وكذلك الشاهد أكد على حصول الواقعة .

وحيث أن فعل المتهم يشكل الجرم الجنائي المعاقب عليه بالمادة 377 عقوبات

( ويتعين ) عقابه طبقا للقيد والوصف الواردين بقرار الاتهام ، وطبقا لنص المادة 377 عقوبات . وفيما يتعلق بالدية فإنها تجب على المتهم وتتحملها العاقلة عملا بقول الله تعالى :ـ { وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنا إلا خطأ ومن قتل مؤمنا خطأ فتحرير رقبة مؤمنة ودية مسلمة إلى أهله } ( الآية 90 ــ 91 من سورة النساء  )

وعملا بنص المادتين 3 ـ 5 من القانون رقم 6 لسنة 1423 م يشأن أحكام القصاص والدية وتقدرها المحكمة بثمانين من الإبل عملا بنص المادة 7

وحيث أنه فيما يتعلق بتقدير العقوبة فإن الواقعة قضاء وقدرا وأن المتهم ليس من ذوي السوابق الجنائية .

وعملا بأحكام المادتين 27 ـ 28 عقوبات والمادتين 112 ـ 113 عقوبات فإن المحكمة تحكم عليه بما يلي :ـ

أولا / حكمت المحكمة حضوريا اعتباريا بإدانة المتهم ومعاقبته بالحبس سنة واحدة وتغريمه مائة دينار وأمرت بوقف عقوبة الحبس فقط المدة القانونية .

ثانيا / معاقبة المتهم بدفع دية المجني عليه لورثته وقدرها ما يعادل ثمن ثمانون من الإبل .

ثانيا / التعليق على الحكم

الحكم السالف ذكره لم يراع أبسط القواعد القانونية ولم يلتزم بأحكام الشريعة الإسلامية ، وبيان ذلك فيما يلي :ـ

أولا / بالنسبة للقواعد القانونية : فإنه من المعروف والمسلم به فقها وقانونا وقضاء ما يلي :ـ 

 1 ـ إن الواقعة الواحدة ( مثل القتل الخطأ ) لا يعاقب عليها بقانون العقوبات  وقانون القصاص والدية .

2 ـ إذا كانت الواقعة الواحدة ( مثل القتل الخطأ ) يحكمها قانون عام وقانون   خاص فإن القانون الخاص وحده هو الواجب التطبيق ، لأن القانون العـام   إذا لم يلغ صراحة فإنه يكون منسوخا نسخا ضمنيا .

وفي هذه الحالة أي في واقعة القتل الخطأ فإن المادة ( 3 ) من القانون رقم 6 لسنة 1423 بشأن القصاص والدية هي الواجبة التطبيق لأنها وردت في القانون الخاص ، ويستبعد من دائرة التطبيق المادة ( 377 ) عقوبات لأنها وردت في القانون العام

ثانيا ـ بالنسبة لأحكام الشريعة الإسلامية :ـ 

  فإنــه كان يتعين على المحكمة تطبيق أحكام المادة  ( 3 ) فقط من القانـــــون رقم 6 لسنة 1423 بشأن القصاص والدية ، ليس لأنه القانون الخاص فقـــط  وإنما أيضا لأن أحكامه مستمدة من الشريعة الإسلامية .

غير أن الحكم وإن كان قد طبق على الواقعة المادة ( 3 ) من القانون المذكور بالإضافة إلى قانون العقوبات فإنه لم يراع أحكام الشريعة الاسلامية في تطبيقها ، لأنه قدرها بثمانين من الإبل عملا بنص المادة ( 7 ) من القانون المذكور ولأنه عاقب بها المتهم بدفعها لورثة المجني عليه ، ولأنه قرر بأن قدرها ما يعادل ثمن ثمانون من الإبل .

وحيث أن عمدة الفقهاء في تقدير الدية في الشريعة الاسلامية / وهو حديث عمرو ابن حزم الذي رواه النسائي في سننه ، فعن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم عن أبيه عن جده

أن رسول الله صلى الله عليه وسلم / كتب إلى أهل اليمن كتابا فيه الفرائض والسنن والديات وبعث به مع عمرو بن حزم فقرئت على أهل اليمن هذه نسختها :ـ

من محمد النبي صلى الله عليه وسلم إلى شرحبيل بن عبد كلال ونعيم بن عبد كلال والحارث بن عبد كلال قبل ذي رعين ومعافر وهمدان أما بعد …….

وكان في كتابه [ أن من اعتبط ( قتل بغير جناية ) مؤمنا قتلا عن بينة فإنه قود إلا أن يرضى أولياء المقتول

وإن في النفس الدية ( 100 ) مائة من الإبل

وإن في الأنف إذا أوعب جدعه الدية

وفي اللسان الدية

وفي الشفتين الدية

وفي الرجل الواحدة نصف الدية

وفي المأمومة ثلث الدية

وفي الجائفة ثلث الدية

وفي المنقلة خمس عشر من الإبل

وفي كل أصل ( أصبع ) من أصابع اليد عشر من الإبل

وفي السن خمس من الإبل .

وفي الموضحة خمس من الإبل .

وأن الرجل يقتل بالمرأة ……وعلى أهل الذهب ألف دينار ]

وقد ورد في حديث آخر أن الدية مائة من الإبل في القتل الخطأ تدفع أخماسا وعلى ثلاث سنين وتدفعها العاقلة وهي على النحو التالي :ـ

1 ـ 20 عشرون بنت مخاض ( وهي التي أكملت سنة ودخلت في الثانية ) ( أمها حامل )

2 ـ 20 عشرون بنت لبون ( وهي التي أكملت سنتين ودخلت في الثالثة ) ( أمها ذات لبن ) .

3 ـ 20 عشرون ابن لبون ( وهو الذي أكمل سنتين ودخل في الثالثة ) ( أمه ذات لبن )

4 ـ 20 عشرون حقة ( وهي التي أكملت ثلاث سنين ودخلت في الرابع ) ( طرقها الحمل مــــن

     الفحل )

5 ـ 20 عشرون جدعة ( وهي التي أكملت أربع سنين ودخلت في الخامسة )

وعلى هذا الأساس الواردة في الشريعة الإسلامية فإن الحكم محل البحث والتعليق قد خالف أحكام الدية في أكثر من موضع ، بيانها فيما يلي :ـ

1 ـ عاقب المتهم بالدية ( وفي الشريعة في القتل الخطأ يحكم بها على العاقلة )

2 ـ قدر الحكم الدية بثمانين من الإبل ( وفي الشريعة ، الدية بالإبل ، مائة من الإبل )

3 ـ قدر الحكم الدية بثمانين من الإبل ( وفي الشريعة الدية بالإبل تدفع أخماسا )

4 ـ قدر الحكم الدية بما يعادل قيمة ثمانين من الإبل ( ولم يحدد أنواع وأعمار الإبل التي يقــــدر

    قيمتها )

5 ـ قدر الحكم الدية بما يعادل قيمة ثمانين من الإبل ( ثم من الذي يقوم بتقديرها )

6 ـ لم يعين الحكم المدة التي تدفع فيها الدية ( وفي الشريعة تدفعها العاقلة في ثلاث سنوات كل سنة جزء منها )

وبناء على جميع ما تقدم

فإنني أرى وقد صدر الحكم حضوريا اعتباريا إذا كان لم يعلن للمتهم أو لم يكن قد استأنف من قبل  ، أن يستأنفه المتهم وأن تستأنفه النيابة العامة استئنافا فرعيا بعد استئناف المتهم ، لأن النيابة الحكم في حقها دائما حضوريا

وفي حالة استئنافه فإنه لا يكون أمام دائرة الجنح والمخالفات المستأنفة بالمحكمة الابتدائية إلا إلغاء الحكم المستأنف لمخالفته للقانون والخطأ في تطبيقه وتأويله والحكم ببراءة المتهم من التهمة المنسوبة إليه

وليس معنى هذا ضياع حق ورثة المجني عليه فإنه يجب عليهم رفع دعوى على الجهة التي يتبعها المتهم لأنها هي عاقلته ، لأن العاقلة في الوقت الحاضر غير موجودة كما كانت في الماضي ، وهي العصبة من الذكور الراشدين من القبيلة الذين يحملون السلاح ويذودون عن القبيلة

وإنني أرى أن تقاس الدية بالذهب ولا تقاس بالإبل لعدم وجود رحبة من الإبل توجد فيها  الأنواع الخمسة من الدية ، وأما الذهب وهو ( 1000 دينار ذهب ) اتفق الفقهاء على أنها تعادل ( 4,250 كجم ) أربعة كيلو ذهب وربع وسعره معروف في مصرف ليبيا المركزي ، ويكون من العيار الوسط وهو سعر عيار 21 مضروبا × 4,250 = حاصل الضرب ( وهو دية القتل الخطأ

والله ورسوله أعلم وهو ولي التوفيق

ملاحظات : نقل هذا البحث كما هو وقد يلاحظ البعض أنه قد وردت بعض الأخطاء من بينها ما ورد في موجز الواقعة والاتهام والحكم حيث وضعنا خطا على ما رأينا أنه خطأ مادي كرقم القانون الواجب التطبيق حيث ورد ما نصه  (( وقدمته للمحكمة طالبة عقابه بمقتضى المادة (3 ) من القانون رقم 13 لسنة 1423 م..)) والصحيح هو القانون رقم 6 لسنة 1423 كما أضفنا كلمة (( ويتعين )) قبل جملة عقابه طبقا للقيد والوصف الواردين بقرار الاتهام حتى يستقيم المعنى  وأضن أن مرد هذه الأخطاء هو نقل الحكم كما هو والالتزام بالأمانة العلمية وهي سمة الباحث والناقل المنصف وهو ما اتسم به أستاذنا الفاضل الأستاذ المرحوم محمد المهدي موسى .

تنبيه : التعليق السابق يثير العديد من الإشكالات القانونية يجب أن تطرح للنقاش وتصلح لأن تكون موضوعا للحوار حيث ستجدون نلك التساؤلات والإشكالات مطروحة للحوار بصفحة موضوع للحوار

logo-m
مدينة طرابلس شارع ميزران بقرب مسجد ميزران
00218913778096
00218924266231
melyassir@yahoo.com
elyassir@hotmail.com

Copyright © Data Technology 2021